الرأي

«طبيب أخطبوطي».. ببضعة دنانير

نبضات

لعل من السذاجة أن أداوي جرحاً عميقاً نازفاً بوضع لصقة جروح تمنع النزف، رغم تلوث الجرح وعمقه المستدعي للتعقيم والخياطة. ألقينا بلوم الأخطاء الطبية كثيراً على الأطباء وخصوصاً المتدربين منهم، غير أن هذا الموضوع يقودنا لمزيد من الموضوعية بضرورة تخصيص وقفة جادة للنظر في ملف الأطباء الشخصي نزولاً على المهني والعام والمسؤولية الطبية التي يطالب بها مجلس النواب عقب الأضرار الطبية المتتالية التي لحقت بعدد لا يستهان به في هكذا وقت قصير. وأنا أقلب الملف الطبي، وجدت عدداً من الأوراق الهامة.
الورقة الأولى: من المؤسف القول بتدني مستوى الأطباء في مجمع السلمانية الطبي باعتباره المستشفى الحكومي البحريني العام الوحيد، قبل إنشاء مستشفى الملك حمد الجامعي، إلا أن العبء الأكبر من الخدمات الصحية في البحرين مازال ملقياً على عاتق مجمع السلمانية، ما يعني بضرورة الارتقاء بخدماته ومستوى أطبائه ليكون مرجعاً حقيقياً لبقية المستشفيات الأخرى في المملكة، حكومية وخاصة.
ولعل تدني مستوى الأطباء مرجعه هجرة الأكفاء منهم من ذوي الخبرة والمهارة إلى الخارج الرحب، حيث الرواتب الضخمة والامتيازات المغرية، الأمر الذي لا يجده الطبيب في البحرين مهما بلغت درجاته العلمية وخبراته العملية ومهما قلت أو انعدمت أخطاؤه الطبية. الخارج الذي يقدر قيمة البشر وحياتهم وصحتهم، هو الذي يدفع أكثر من أجل الطبيب الأفضل، ارتقاءً بمستوى خدماته وكوادره الطبية، فيما تنحدر في بلادنا إثر ذلك النزف الذي نعانيه من الكفاءات الطبية العالية والمستشارين المشهود لهم. فهل سيأتي يوم لوضع حد «عادل» لوقف هجرة الأدمغة والكفاءات الوطنية؟!!
الورقة الثانية: بعد ظهور الجامعات الخاصة في المجال الطبي، انشغل عدد أكبر من الاستشاريين بالتدريس، وزادت مسؤولياتهم التي تبدأ بمتابعة المرضى وعلاجهم مروراً بتدريب الأطباء الجدد، وانتهاءً بتدريس الطلبة. ولكي لا يخفق ذلك الاستشاري في مهماته الظاهرة، تخلى أو تخاذل عن مهماته الباطنة، وهي تدريب الأطباء الجدد. زد على ذلك، إن كان لهذا الاستشاري عيادة خاصة يباشر علاج المرضى من خلالها، وبالطبع لها من الأولوية في نفس الاستشاري، ما ليس للطبيب المتدرب أو الجديد. فإلى متى سنعمل بنظام «الموظف الاخطبوطي»، و«الموظف الآلة»، المعمول به في مؤسساتنا الحكومية؟!
إلى متى سنعي أهمية تحديد المهام وتقنين المسؤوليات؟ إلى متى سنظل نحمل الموظفين -بمن فيهم الأطباء- ما لا طاقة لهم به، بذل العيش الكريم؟ باعتقادي إن الأمر بحاجة لمراجعة جادة خصوصاً عند التعامل مع الأطباء، فأرواح البشر بين أيديهم، إن كانت الجهات المسؤولة تعي معنى «الأرواح» وقيمتها.
الورقة الثالثة: بمقابل تدني مستوى أجور الأطباء، والمشار إليه ضمناً في الورقة الأولى من المقال، يجد الطبيب أو الاستشاري مردوداً مادياً مجزياً في أروقة العيادات والمستشفيات الخاصة، المردود الذي هو بمثابة واحتهم الغناء المستحقة للبذل والجهد هناك. ولذلك فإننا نجد فشل القرار الوزاري رقم (18) لسنة (2011)، والذي جاء في التعميم رقم (1) للسنة (2012) بشأن تنفيذه: «يمنع على جميع الأطباء والاستشاريين العاملين بالمستشفيات والمراكز الصحية وغيرها من الجهات التابعة لوزارة الصحة العمل بأية جهة أخرى سواء كانت مملوكة لهم أو لغيرهم. ويجب على جميع الأطباء والاستشاريين والذين يعملون حالياً بجهات أخرى، توفيق أوضاعهم بما يتفق مع أحكام هذا القرار خلال مدة أقصاها 30 يوماً من تاريخ العمل بهذا القرار».
إن الفشل الذريع الذي حققه هذا القرار الوزاري كان بمثابة صفعة جماعية كبرى من قبل نحو 70% من الأطباء في البحرين، تلقتها وزارة الصحة ومن يتبعها من جهات مسؤولة منها ديوان الخدمة المدنية. وإن دل ذلك الرفض على شيء فهو يدل على أن ما يتحصل عليه الطبيب في القطاع العام لا يتناسب البتة مع مستوى ما يقدمه من خدمات جليلة للإنسانية، ولا مع ما أفناه من عمره من سنوات في التحضير العلمي لهذه المهنة ومازال.
تلك الـ 70% كانت النسبة التقديرية لحجم ما تلقته وزارة الصحة من استقالات الأطباء والاستشاريين، نزوعاً للانطلاق في عالم الطب الخاص وفضاءاته الرحبة. فهل من مستفيق؟
الورقة الرابعة: يتخرج طالب الطب في عمر 24 سنة، وليكون طبيباً حقيقياً هو بحاجة لتدريبات عملية تحت إشراف استشاري لعام كامل، ذلك الاستشاري غير المتفرغ في بلادنا، ولعلنا ندرك بطء السلم الوظيفي الطبي بالنسبة والتناسب مع عمر التعيين الإلزامي في حده الأدنى نظراً لضرورات الدراسة الطبية وسنواتها الطوال مقارنةً ببقية التخصصات. ويستلزم هذا النظر في أجور الأطباء بما يعوض السنوات السابقة المفنية في الدراسة، وبما يتناسب مع حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الطبيب، خصوصاً وأن شهادة الطب تحصر الطالب في العمل في نطاق محدود جداً مقارنة ببقية التخصصات مفتوحة الأفق، ومرونة بعضها في التعيين بتخصص قريب من متطلبات الوظيفة أو بما يعتمد على الخبرة العملية في مجال وظيفة أخرى دون المؤهل الأكاديمي.
عندما يبدأ طبيب في الخامسة والعشرين من العمر استلام مرتبه الشهري الأول -هذا إن حالفه حظ الحصول على وظيفة فور تخرجه، وهو متأخر عن ركب كثير من الشباب في عمره- فهو للتو يبدأ بادخار القليل من أجل تأسيس حياة حقيقية، بدءاً بشراء سيارة، وتجميع مهر العروس، وصولاً لمرحلة الزواج وتقديم طلب إسكان، القضية الأخرى الممنوع من الانخراط فيها بدعوى مستوى الراتب!! والسؤال، في أي عمر سيتمكن الطبيب من امتلاك سكن الزوجية أو سكنه الخاص؟
كلنا يعلم أن مستوى الطبيب في كل بلدان العالم عالٍ جداً، إلا في بلداننا، فالطبيب في عمر الثلاثين يشتري سيارته الأولى من ماله الخاص، سيارة «يجب» أن تليق بمستوى «طبيب»، وفي الخامسة والثلاثين يقبل على الزواج، ولعله يتمكن في الأربعين من شراء أرض، ولكي ينتهي من دفع أقساطها الشهرية، هو بحاجة لعشر سنوات قادمة على أقل تقدير وباعتقادي فإن العشر سنوات تقدير أفلاطوني، ثم ربما في سن الخمسين يبدأ البنيان، وهنيئاً لورثته هذا البيت المتواضع!!
أما قانون التقاعد.. فيبدو أنه هو الآخر لم يستوعب السن الإجبارية المتأخرة التي يبدأ بها الطبيب عمله، والتي تعني أنه من النادر، إن لم يكن من المستحيل أن يصل طبيب في سنه التقاعدي، لمرتب بنسبة 80% من الراتب الأساسي. ببساطة.. لأن وصوله للعمر التقاعدي لا يتفق مع عدد سنوات الخدمة المطلوبة للحصول على نسبة 80% التعجيزية في المجال الطبي. فهل سيعاد النظر في الوضع التقاعدي للأطباء.. مع مراعاة البذل المستمر مهنياً وأكاديمياً؟
الورقة الخامسة: لم تكتمل.. ننتظر أن تخطها أيدي جهات مسؤولة. فهل ستضع وزارة الصحة في أجندة اجتماع استثنائي لها مع ديوان الخدمة المدنية، مسألة رفع أجور الأطباء وتعديل نظام التقاعد، وتحديد المهام والمسؤوليات بما يتناسب مع المعايير الإنسانية البعيدة عن تحويل الإنسان إلى آلة؟! أتطلع لدور حقيقي آخر تضطلع به جمعية الأطباء كذلك. مقال قادم آخر يكشف مزيداً من الأوراق في ذلك الملف الطبي الضخم في البحرين.. فإلى لقاء.