الرأي

مواطن من فصيلة الطيور

نبضات

بما أن الدولة تخلت عن أدوار ومسؤوليات كثيرة رغم أهميتها البالغة في تحديد الولاء الشعبي وتوجيهه، وخصوصاً تلك الجوانب الاجتماعية والأيديولوجية باعتبارها من عوامل الاستقطاب الفاعلة في سد الفراغ الذي خلفته الدولة على كثير من الأصعدة، يمكن القول؛ لعل المنظمات الأهلية قد استغلت كثيراً من الأغطية الدينية لتغلف نفسها بالنور، وتنمط صورتها في الأذهان بشكل ملائكي رائع، لتكتنف بين جناحيها أصحاب الفاقة والفقر، فتعينهم على أمور دنياهم ومعاشهم؛ المعاش البحريني الضنك من قبل الإرهاب وبعده، غير أن الآذان الحكومية هي الأخرى لا تصغي إلا للكلمات التي تدغدغ مصالح ما، تجعل من المواطن في مؤخرة أولويات الدولة أو قبلها بقليل.
تخلت الدولة عن دورها في تأمين حاجة الفقراء، واكتفت بعلاوة غلاء معيشة لا تسمن ولا تغني من جوع، ومساعدة المحتاجين من قبل وزارة التنمية الاجتماعية بمبالغ لا تفي بمصروفات طفل في الرابعة من عمره، بعد مشوار طويل في توثيق الظروف وإثبات الحالة وكثير من المهانة والتودد. بهذا تكون الدولة قد ألقت بفتات خبزٍ من بقايا مشاريع فارهة متناثرة هناك وهناك، ظناً منها بأن مواطنيها من فصيلة الطيور، عندئذ.. تحملت المنظمات الأهلية «الخيرية» هذا العبء الثقيل.
الأموال التي تضخها تلك المنظمات الأهلية مجتمعة في جيوب المحتاجين وأفواههم، ليست كنزاً ألقي به من السماء، وإنما هو حصيلة جمع تبرعات بقية المواطنين والمقيمين على أرض هذا الوطن، من أموال صدقات وزكاة وغيرها. ترى.. أكان يعجز الدولة أن تمارس هذا الدور عوضاً عن تركه تحت تصرف تلك المنظمات؟ إننا لن نخوض في مسألة الذمم وما يتفرع إليها من قضايا شائكة، ولكننا سنطرق الأمور بعمومياتها.
لقد حققت أزمة 2011 في البحرين، فوضى ودماراً أنجحت مساعي المعارضين والانقلابيين ومحرضي الإرهاب في زعزعة أمن الوطن لسنوات ثلاث، حتى أيقظ تفجير الرفاع على حين غفلة النائمين من سباتهم، وكلنا أمل ألا يكون استيقاظاً لحظياً يتناول فيه النائم بضع قطرات من الماء يطفئ بها عطشه ليسترسل في سبات أعمق. وعموماً.. فإن من أهم عوامل نجاح تلك المساعي الخبيثة، أدوات الاستقطاب التي قدموها لمنتسبيهم، يأتي في مقدمتها ارتفاع أجور الأعمال الإرهابية، والدعم في كثير من جوانب الحياة المختلفة، لاسيما مادياً.
نستخلص من هذا، أن المال والعيش الكريم على أقل تقدير، واحدة من أهم أدوات استقطاب الولاء، ولذلك فإننا نجد الإماراتي على سبيل المثال يتغنى ليلاً ونهاراً بحب زايد حياً وميتاً -رحمه الله- ويتغنى بعشق الإمارات. لأن وطنه الذي ينتمي إليه منحه ما لم يجعله في حاجة أحد، كريم يعطي ولا يعطى. المال واحدة من أدوات استقطاب الولاء، يبرهنه ما اكتسبته تلك المنظمات على اختلاف توجهاتها وتحزباتها، من أتباع وموالين ومؤيدين ظاهراً أو باطناً، كان حرياً بالدولة أن تضمن تلك الموالاة والتبعية والتأييد لصالحها قبل هؤلاء.
إن اكتساب الولاء الشعبي من قبل منظمات أهلية يعرّض الدولة لتهديد تجييش الشعب ضدها إن تقاطعت مصالح تلك المنظمات وإياها، ما يجعلها في عرضة لخطر اتحاد الشعب على غير هوى الدولة، ليس رغبةً من الشعب في ذلك، وإنما حماية لمصالحهم التي تحصلوا عليها من قبل تلك المنظمات. وبهذا فإن استغلال أموال الناس من التبرعات لاكتساب منظمة ما ولاء جمهورها وتوسيع قاعدتهم يوماً بعد يوم، باعتقادي يعد جريمة لا تقل عن جريمة جمع الأموال لأغراض إرهابية، لما يحققه تقديمها وتوزيعها للتبرعات على الناس من حظوة في نفوسهم ونفوذ.
ولعل من أبسط الحلول في ذلك تجريم جمع أموال التبرعات والتي أوكلت فيما قبل -بموجب قوانين معينة- لبعض المنظمات تحت عنوان «خيري». وتحويل هذه المسؤولية على المؤسسة الخيرية الملكية مثلاً، لتمارس دور «بيت المال» المعروف في الدولة الإسلامية بجباية الزكاة والتبرعات وتوزيعها على المحتاجين وتقسيم الأرزاق. وبالتالي فإن ولاء المواطن يكون للدولة لا لأيٍ من تلك المنظمات.
من أجل ذلك يتطلب الأمر تنسيقاً أكبر بين المؤسسة الخيرية الملكية ووزارة التنمية الاجتماعية، كما يتطلب إنشاء فروع مختلفة للمؤسسة في كافة مناطق البلاد، ولعلها تكون مكاتب مخصصة من داخل المراكز الاجتماعية التابعة لوزارة التنمية، مع مزيد من التطوير، أو تفعيل التواصل بين المواطن ومحافظته مثلاً بالتنسيق مع وزارة الداخلية، ليكون هناك شراكة معينة بينها وبين المحافظات في هذا الشأن.
يمكن هذا من السيطرة على استغلال أموال الصدقات فيما قد تخضع له من مزاجية أو مساومة ضمنية على الولاء نظير توزيع الأرزاق. ولضمان تجريد نشاط الدولة من المزاجية وإبطال مفعول فيتامين «و» في هذا الشأن، لا ضير من تشكيل لجان محددة تعنى بدراسة الحالة والطلبات، شريطة تحديد معايير خاصة لأعضاء تلك اللجان من غير المنتمين لأي أيديولوجية أو منظمة أو توجه.
ومن أجل ذلك يمكن للدولة التنسيق مع كافة البنوك لتحديد مبالغ الزكاة والراغبين في تحويلها رسمياً وبشكل آلي من البنك وحتى «بيت المال» بمجرد حلول موعد الاستحقاق، وتجري نفس العملية لاستقطاعات الصدقات على اختلافها وتعدد أشكالها، من دون إكراه أو إجبار، ما يضمن من جانب آخر تدفق الأموال على خزينة الدولة «بيت المال» لاستمرار عمليات التموين والتبرع للمحتاجين.
ومض النبضات..
يقترح إنشاء مجلس أعلى للشؤون الخيرية، يضم كلاً من وزارة التنمية الاجتماعية، والمؤسسة الخيرية الملكية، ووزارة العدل والشؤون الإسلامية، ووزارة المالية مراقباً مالياً، وغيرها من المؤسسات ذات العلاقة في شرعنة واعية لسد الفراغ؛ الفراغ الذي أوشك أن يودي بمملكة البحرين نحو الهاوية.