الرأي

فرسٌ وحشي يعلو المنبر

نبضات

بحت الأصوات.. وجفت الأقلام.. غير أن العقل للتو انطلق؛ مستعيناً ببضع قطرات من الحبر أسالها وهج الخطاب وحرارته، إنه الخطاب الملتهب على منابر المساجد، الذي امتطى الكلمة فرساً وحشياً يغرز حوافره في بطون البشر، وأفئدة الأنظمة، وأكباد الحقائق، متلحفاً بالدين في هجوم شرس أو خبث ناعم من أجل تحقيق مصالح دنيوية.
يقول الباحث طارق العجاوي، في دراسة له تحت عنوان «أثر الخطاب الديني والسياسي»: «وفي ظل هذه المعادلة السياسية فقدت القيم والمثل جوهرها وألقها -قطعاً في مجال الممارسة- لأن القيم الإسلامية هي ذاتها لا تتبدل ولا تتغير، وتم تزييف كثير من التصورات والمفاهيم الإسلامية لتلائم مصالح الحكام وتعبر عنها، وتجسد في ذات الوقت مصالح وأهداف طبقة سياسية واجتماعية وعسكرية، رفعت أهدافها فوق كل عطاءات الإسلام الإنسانية». وهو كذلك ما يمكن إسقاطه على تزييف الحقائق من قبل بعض الجماعات المتوارية بعباءة الدين لتحقيق مصالحها الشخصية والسياسية والإثنية في بعض الأحيان.
من أجل ذلك، جاءت الضرورة ملحة لإعادة النظر في آلية تقديم الخطاب الديني، ومراقبة محتواه الظاهر والباطن، وتجريده التام من السياسة، فللسياسة ميادين ومنابر هي الأخرى، ومن الأولى أن يوكل كل أمر لأهله، دون تقاطع في التخصصات أو اتساع مضرّ. ما يستدعي اتخاذ إجراءات جادة في سبيل تجريد المنابر الدينية من التوجهات الأيديولوجية للطوائف والأحزاب والفرق، والتي يمثلها عدد من المنظمات الأهلية في البلاد، وذلك عبر مركزية الخطاب الديني وخطب الجمعة. وتتمثل تلك المركزية بتشكيل لجنة خاصة أو فريق عمل متخصص في وزارة العدل والشؤون الإسلامية، يعمل على إعداد الخطابات الدعوية والتثقيفية في أمور الدين، لتصدر جاهزةً لخطباء المساجد، مع إمكانية الربط إلكترونياً لخطباء المساجد مع ذلك الفريق المتخصص لتزويده بنبض الشارع والخطب المقترحة، والتي قد يحتاج إليها الجمهور.
ولا ضير أن يتفرع من ذلك الفريق فريق آخر مصغر لدراسة بعض جوانب القصور في المعرفة الدينية لدى الجمهور وتقديم قوائم دورية بالموضوعات الأولى بالطرح من غيرها، لتحقيق أقصى مستوى من الفائدة في التثقيف الديني الصحيح والآمن.
ولضمان سيرورة عمل دور العبادة حسب ما ينبغي، من الضرورة أن يتم تجهيزها بكاميرات مراقبة، تعمل على بثّ الخطب مباشرةً على موقع إلكتروني خاص بوزارة العدل والشؤون الإسلامية وتسجيلها، بحيث تتاح خاصية التعليق على الخطب من قبل الجمهور، الأمر الذي يسهم في تعزيز دور لجنة دراسة احتياجات المجتمع المعرفية، فضلاً عن التعرف على آراء الجمهور في خطباء المساجد وشكاواهم حال وقوع مخالفة ما. وباعتقادي فإن وجود كاميرا للرقابة في المساجد يتيح فرصة توفير أجواء آمنة لمرتاديها تجنباً لوقوع بعض الممارسات الأخلاقية الذميمة والشاذة ومنعاً للفحشاء والمنكر في تلك المواقع المقدسة. ومن أجل ذلك يمكن تحديد مركز الرقابة في وزارة الشؤون الإسلامية -والتي تبث من خلاله صور حية مباشرة من كافة دور العبادة- بقسمين؛ أحدهما للرجال، وآخر للنساء لمراقبة مصليات النساء كذلك.
وعودٌ على بدء، بشأن تجريد المنابر من التوجهات الأيديولوجية للطوائف والأحزاب والفرق الدينية، وفي ظل حدود مراعاة حرية الأديان والقائمة على إتاحة الفرصة لممارسة الدين على صعيد الطائفتين السنية والشيعية، واحترام خصوصية كلٍ منهما، فلعل من محاسن الخطاب المركزي احترام استقلالية المواطن، وإتاحة فرصة صحية لممارسة الدين بلا شوائب أو تشويه، فالمواطن المستقل أيديولوجياً، والآخذ بأصول الدين المنطلقة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ليس مجبراً لأن يمارس العبادة في أجواء مسجد متخندق، ليسمع خطاباً خاصاً بفرقة أو حزب ما؛ فليس كل مواطن يؤمن بما تتبناه تلك الفرق والأحزاب من مواقف وآراء، ولا تفسيرات لنصوص الدين أو منهج الحياة المعمول به لديها. المواطن البحريني قد يكون مسلماً في بلد مسلم يؤْثر أن يخضع ما يستقبله من خطابات لدولة مسؤولة عن رعاية الدين وتبليغه، عملاً بموجب النظام الإسلامي القائم في البلاد، منزوعاً من الشبهات والبدع التي قد تتبناها بعض الفرق.
نستعرض هنا ملخص ما أورده د.عمرو شريف، في كتابه «ثم صار المخ عقلاً»: «إن الدين واحد منذ الأزل، منذ آدم عليه السلام، ولكنه جاء في إصدارات متعددة، متمثلة في الشرائع إسلامية، مسيحية، يهودية؛ ولذلك نجد أن هناك قواسم مشتركة بين الشرائع السماوية لكونها ترجع لدين إلهي واحد. وهو مما أدركه بعض الفلاسفة الغربيين؛ إذ عبر عنه «برنارد شو» بقوله: يوجد دين واحد، وصل إلينا في أكثر من 100 إصدار». ولكن الشريعة الإسلامية لا تحتمل أن تخضع لإصدارات متعددة باعتقادي؛ وذلك لغياب الصفة السماوية أو الوحي السماوي «إن صحّ التعبير»، وإن كل ما يخرج من إصدارات على الشريعة الإسلامية إنما هو من الشبهات والبدع.
إن الحديث عن الشبهات والبدع التي تختلقها الطوائف والأحزاب والفرق، إنما هو تحذير إلهي أورده الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وليس تجنياً شخصياً على فرقة ما، إذ يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله)، وقد جاء في تفسير ابن كثير، أن الفرق هم أهل البدع والشبهات والرسل براء منهم، وهو تفسير الآية في سورة الأنعام آية «159». أما في سورة الروم الآية «32» فيقول تعالى (وَلا تكونوا منَ المشرِكينَ، منَ الذِينَ فرَّقوا دِينهمْ وكانوا شيعاً كلُّ حزْبٍ بما لدَيهمْ فرِحونَ)، وقد فسر الطبري (كلّ حزْب بما لدَيهمْ فرِحونَ) بقوله «كلّ طائفة وفرقة منْ هؤُلاءِ الذِينَ فارَقوا دِينهمْ الحقّ، فأحدَثوا البدَع التي أحدَثوا وحول «بما لدَيهمْ فرِحونَ»، يقول: «بما همْ بهِ متمسكونَ منْ المذْهب، فرِحونَ مسرُورُونَ، يحسبونَ أنَّ الصوَاب معهمْ دُون غيرهمْ». لذلك فإن ترك المنابر الدينية لمثل هؤلاء إنما هو من أدوات تشتيت الناس وإغراقهم في البدع والشبهات ممزوجةً بروح الدين. فهل يستلزم على المواطن بكل خطبة جمعة مثلاً أن يمارس عمليات بحث موسعة للتحقق من صحة ما تلقاه ومدى صحة الأخذ به دون سواه؟! هنا يكمن دور الدولة.
يستلزم ذلك طبعاً، التدقيق في مواصفات الخطيب قبل تعيينه، ومراجعة جادة للخطباء الحاليين، فلابد أن تكون للخطيب معايير خاصة يراعى في ذلك توجه الجامعة التي حصل من خلالها على شهادته في الشريعة، وسلامته من الانتماء لأي توجه أيديولوجي، كما يستلزم منع خطباء المساجد من عضوية الجمعيات السياسية والدينية، على غرار العسكريين، لما يحمله الدين من قدسية وتأثير، تفوق قدسية الدولة وأمنها أو تقترن بها في بعض الأحايين لما تحققه من مصلحة إسلامية قائمة على «أمن الأوطان».
يدعو ذلك لتقويض نشاط المنظمات الأهلية الدينية في المساجد بحجة رعايتها والإشراف على مراكز القرآن الكريم وتدارس علومه، وتحويل تلك المهمة للدولة، وتمويلها من «بيت المال» المشار إليه في المقترح المقدم في المقال السابق، كما هو معمول به في تمويل رعاية المساجد من التبرعات التي تتحصل عليها تلك المنظمات حالياً من الناس. يشمل ذلك حصر نشاط تلك المنظمات الأهلية الدينية في مقارّها الرسمية فقط، شاملةً نشاطها الدعوي والتثقيفي وما قد تمارسه من عبادات خاصة أو مناسبات، يدخل من ضمنها فعاليات العزاء لدى الطائفة الشيعية، مع ضرورة الرقابة على سلامة نشاط جميع تلك المنظمات من أي توجهات سياسية ما.
يبقى أن الموضوع شائك وواسع ولا يمكن تغطيته من خلال مقالة واحدة، وأن كثيراً من تفاصيله بحاجة لمزيد من التفكر والتأمل والطرح والمناقشة. من أجل دحر تلك الخيول الوحشية.