الرأي

شطرنج الشرق الأوسط.. إسرائيل: «كش ملك» كردستان

نبضات

يظن البعض أن العلاقات الكردية الإسرائيلية تعود لستينيات القرن الماضي، أو لخواتيم الخمسينات «1958» في فترة القضاء على النظام الملكي العراقي؛ فيما ترجع علاقاتهما الحقيقية إلى «1930» عندما زار «روفين شيلوا» العميل السري للوكالة اليهودية جبال كردستان العراق، وأقام علاقات وطيدة مع الأكراد وخصوصاً «قبيلة البرزاني».!! وقد دخل المنطقة تحت غطاء العمل الصحافي في بغداد. لكن تلك العلاقات لم تثمر بصورة فاعلة إلا في مطلع الستينات، وذلك بعد بروز الكردي التركي الأمير كاميران بدر خان ولقائه مع نائب وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز.
لكن المتتبع لتاريخ العلاقات الإسرائيلية مع الأكراد، سيجد تركيزاً كبيراً من قبل إسرائيل على كردستان العراق دون بقية مناطق التمركز الكردي في الشرق الأوسط، ولم يكن ذلك التركيز اعتباطياً؛ وإنما استهدف تشتيت موارد العراق، كرد فعل على الإحساس بتهديد الخطر العراقي على إسرائيل؛ ما يتيح لإسرائيل -وبمعزل عن العراق- تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العرب. وهذا ما دعاها لتقديم المثيرات العسكرية، التي من شأنها إعادة توجيه انتباه العراق لغير محل.
ولم تكن العلاقات الإسرائيلية الكردية سوى علاقات استخباراتية وعسكرية نسبياً، إذ لم ترقَ لشراكة سياسية حقيقية ولا علاقات دبلوماسية بين الطرفين؛ ولذلك فقد تلقى أكراد العراق دعماً لوجستياً إسرائيلياً نظير العمل الاستخباراتي ضد النظام العراقي السابق، والمساعدة الكردية لإسرائيل في الإضرار بمصالح ذلك النظام، وتحريض الأكراد عليه. ويعود ذلك لتعزيز فصل أكراد العراق عن المنطقة، في خطى موزونة لإسرائيل، وصولاً لتحقيق خطة تفتيت الدول العربية إلى كيانات قومية أو دينية، الخطة التي وضعت في عام «1982»، على يد «أوديد يينون»، والمتوافقة كذلك مع خطة «برنارد لويس» في تقسيم الشرق الأوسط، وهو ما أنتج ما سميّ بـ»الفوضى الخلاقة» في المنطقة.
وقد تمثل الدعم الإسرائيلي للأكراد في التزويد بالسلاح «1963»، ومن ثم تدريب الأكراد من قبل الموساد، وذلك في معسكرات فتحت خصيصاً لهذا الغرض «1965»، فضلاً عن المساعدات المالية الشهرية بمبلغ «50» ألف دولار، والتي كانت تصل للأكراد -وتحديداً مصطفى بارزاني- في نفس الفترة، عبر ممثل سري لإسرائيل.
ولكون إسرائيل حليفة لنظام الشاه في فارس، آنذاك، فقد تأسس جهاز مخابرات كردستانية الـ»بارستن» والذي يترأسه مسعود بارزاني بدعم من الموساد والـ»سافاك» «المخابرات الإيرانية»، ولا يخفى أن مسعود قد تلقى التدريبات العسكرية في كردستان وكذلك إسرائيل. ولم يقتصر الدعم على هذا وحسب، وإنما امتد للمساعدات الطبية التي قدمتها إسرائيل للأكراد ومنها إهداؤهم مستشفى ميدانياً.
وقد تمخض عن الدعم الإسرائيلي للأكراد، ضرب مصفى نفط كركوك عام «1969» بتعاون كردي مع الموساد، وشنّ حملات متتالية مباشرة وغير مباشرة ضد صدام حسين، فضلاً عن التحريض الإسرائيلي للأكراد بالهجوم العسكري على الجيش العراقي، في الفترة المتزامنة مع حرب أكتوبر «1973»، الأمر الذي عارضه «هنري كسينجر» وزير الخارجية الأمريكي -آنذاك- لارتعابه من قيام دولة كردستان، نظراً لما تملكه من قوة قد تمكنها من العراق في مرحلة هشاشة الجيش العراقي، بما يمنحها فرصة لتتعاظم قوتها العسكرية والإضرار بالمصالح الأمريكية، والتي ستكون أمام خريطة جديدة للشرق الأوسط خارجة عن حساباتها وخططها.
يعلل التحريض الإسرائيلي الأخير الرغبة الملحة في الانتقام من العراق؛ لانضمامه مع دول المواجهة العربية ضد إسرائيل في «1967» و»1973». ومن المحطات التاريخية اللافتة أيضاً، ما ذكرته بعض المصادر حول اتصالات جرت بين الموساد وأكراد العراق إبان حرب الخليج الثانية.
وقد تمخض عن ذلك التنسيق الاستخباراتي المشترك، دعم إسرائيل لمطالب أكراد العراق في حصولهم على حكم ذاتي في شمال المنطقة، الأمر الذي بدأ العمل عليه من سبعينات القرن الماضي؛ بما يحقق خطة التفتيت المذكورة سابقاً، إلى جانب إقامة دولة كردستانية على غرار الدولة الإسرائيلية، وهو ما أكده مقال نشر في موقع صهيوني عنوانه «صحافي كردي صديق لإسرائيل»، اعتمد على استطلاع رأي الأكراد الذين أكدوا بنسبة «87%» عمق العلاقات والروابط الكردية مع الكيان الصهيوني، كما قال «67%» منهم إن إسرائيل سيكون لها دور مهم في تكوين دولة كردية في شمال العراق!! لكن؛ هل سيتحقق ذلك، وهل ستسمح إسرائيل حقيقةً بقيام تلك الدولة بالقوة التي يطمح لها الكرد، ولسان حال الأكراد يردد قول إيليا أبوماضي: ومرّت ليالٍ والمنى تجذب المنى*** وقلبي، كما شاءت، يلين ويشتدّ. فإنما المصير كل المصير ربما يكمن بمشيئة إسرائيلية في المنطقة، وربما لم يحن موعد تلك المشيئة بعد!!
ويقود هذا للتساؤل حول ما يحظى به العرق الكردي من امتيازات تجعل من إسرائيل داعماً له، ونخلص لأن هذا الدعم لم يتحقق للأكراد من أجل «سواد عيونهم»، وإنما بما يحقق غايات إسرائيل في العراق. يعزز هذا الرأي موقف إسرائيل من أكراد تركيا الذين تكنّ لهم العداء؛ نظراً لدعمهم للحركة الفلسطينية ضد الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان «1982»، وقد تدرب عدد من أعضاء الأحزاب الكردية التركية على أيدي تنظيمات فلسطينية، وفي معسكرات بسهل البقاع اللبناني، وهو ما دفع إسرائيل للوشاية بهم لدى تركيا، وتقديم كم هائل من المعلومات حولهم، مستغلة نفوذها الاستخباراتي في العراق، وعلاقاتها الوطيدة بفارس، فضلاً عن اتصال مع أكراد سوريا. وهو ما يمنح إسرائيل فرصة ضرب عصفورين بحجر؛ فمن ناحية ها هي تنتقم من أولئك أكراد المتحالفين ضدها، ومن ناحية أخرى تعيد الود والثقة بينها وبين تركيا التي تعتبر بعض الأحزاب الكردية فيها ضمن المنظمات الإرهابية الخطرة.
وبوجه عام، يتبين من خلال تاريخ تلك العلاقات، التعامل الإسرائيلي مع الأكراد بغرض الدفاع عن النفس، وقد كان الأكراد بمثابة الدرع الواقي لإسرائيل في العراق، فيما كانوا ورقة ضغط مربحة مع تركيا في بعض المواقف الحرجة والمرتبطة بملف «حقوق الإنسان» و»حقوق الأقليات» والمتمثلة بالمقام الأول بـ»حقوق الإنسان الكردي في تركيا» -والتي تحدثنا عنها في المقال السابق- فضلاً عن كونهم ورقة تعاون مشترك تجمع بين البلدين في توحيد للمواقف ضدهم عندما يتطلب الأمر الإضرار بالأكراد والعودة لمغازلة الود التركي من قبل المشاكسة اللعوب إسرائيل.
ورغم عدم إبحارنا في العلاقات الأمريكية الكردية؛ إلا أنه وبوجه عام، لطالما عملت الولايات المتحدة على استخدام الأكراد ضمن المخطط الاستراتيجي الشامل لمنطقة الشرق الأوسط، خلافاً لما يظنونه هم حول العلاقات المتينة والنوايا الأمريكية -وكذلك الإسرائيلية- الحسنة في مساعٍ حثيثة وجادة للاعتراف بحكومتهم وسلطتهم. وفي ظل تلك اللعبة الخطرة التي يلعبها الأكراد مع قوتين عظميين، لا يستبعد البتة أن يأتي عليهم يوم «كش ملك» من لاعب إسرائيلي محنك أو محترف أمريكي في شطرنج الشرق الأوسط، وهم كثر!!.