الرأي

قراءة في ثقافة الحوار.. بحرين الأمان إلى مرسى الأمان

نبضات

العرب أمة خاطبها الله بالبيان، وبإعجاز «القرآن»، ويكاد يكون كل فرد من العرب متحدثاً وعلى درجة من التمكن، الذي فقدته بعض الأجيال يوماً بعد يوم. ولكن، فيما وظف العرب بيانهم وجزالة ألفاظهم وقدراتهم التعبيرية؟!! أتم التعبير من خلالها عن ذواتهم وأفكارهم وإيصال رسائل مجتمعاتهم للعالم أو للمحيطين بهم؟! باعتقادي، أن مقدرات كهذه قادرة على منحنا الكثير، بمزيد من العلم والفهم والاضطلاع في ميادين شتى، وبإمكانها أن تقدم شعاراً أسمى للعالم أجمع، مفاده أن البحرين قوة شعبية متماسكة رغم كل المنزلقات السياسية، قوية بشعبها متعدد الأطياف أمام عواصف الطامعين وبراكين الحقد المشحونة ببارود كتل سياسية دولية، احترفت لعبة الشيطان حتى تلمذته من جديد في مدارسها الحديثة!!
كلنا نعلم ما تشهده البحرين هذه الأيام من أجواء حوارية، بغية تحقيق أسمى درجات التوافق الوطني، بما يحقق درجة عالية من الشعور الراسخ بالانتماء الوطني، والذي لا يقبل المساومة والمزايدة على الوطن، من أجل تحقيق المصلحة العامة بالمقام الأول، وبما يكفل أقصى حقوق المواطنين، في موسم حافل بمستجدات مرحلة استثنائية من تاريخ البحرين، لا يقبل فيها المواطنون «التخفيض» في حقوقهم.
والحوار محل حديثنا اليوم، ينطلق من مفهومه العام شاملاً الحوار الاجتماعي والديني والأسري والتجاري وغيرهم، ووقوفاً عند الحوار السياسي والحقوقي. فهل تفكرنا ملياً فيما يشمله الحوار من تفصيلات تحمل في طياتها ثقافة حضارية رفيعة المستوى، إذا ما تمت ممارستها على درجة كبيرة من الوعي والنضج والحساسية والحذر، بما يكفل سلفاً جميع الحقوق لأطراف الحوار، وبما لا يمس أحدهم في شخصه أو يشكك في غاياته المعلنة ما لم يثبت عكس ذلك بالدليل العملي القاطع؟!
دعونا نتفق سلفاً ويقيناً أن هناك فارقاً شاسعاً وبيناً بين المناظرة والحوار، فالغرض ليس إفحام الطرف الآخر ولا الصعود على ركام المتساقطين من البشر في ثمة أزمة أو ظرف طارئ، بقدر ما هو التوصل لاتفاقيات مشتركة عادلة مرضية لكل الأطراف التي يفترض منها الحيادية، اتفاقيات حقيقية بلا ترضيات. والحديث عن الحوار يترتب عليه فهم الآخر عند الاستماع إليه وليس التحضير لردود الإفحام باعتبار الآخر المحاور خصماً، فعندما تدار جلسات الحوار لا بد من الكف عن التفكير في اللحظات المناسبة للانقضاض على الآخر والارتقاء إلى استشفاف السبل الأفضل للفهم والتفكير الحيادي بمعزل عن الأهواء، تحقيقاً لأهداف أسمى تنضوي تحت المصلحة العامة والتي تفعل بمقتضاها لغة العقل أكثر من لغة الهوى.
يلزمنا في الحوار التعامل مع الأمور بوعي ومعرفة، وأن نفهم أن صمت الطرف الآخر للإصغاء يترتب عليه ليس «إطباق الفم» وحسب، وإنما إقامة علاقة طردية نسبية ما بين الهوى والفم معاً، في محاولة لفتح آفاق أوسع لفضاءات العقل المتجردة من الأهواء والمصالح، ويشمل الصمت للإصغاء، صمت تلك التعبيرات الجسدية التي تنطق برأي صاحبها ومواقفه من الطرح دونما ألفاظ، نظراً لما تقدمه من استفزاز للآخر.
في الحوار، لا بد من التوافق على أهداف مشتركة منذ البداية، أهداف حيادية وجادة وواضحة لكل الأطراف، ومن ثم محاولة التوصل لأفضل الطرق من أجل الاتفاق على الأسس المشتركة والمتفق عليها وصولاً لإرساء قواعد توافق أكبر، لا تقف على الحيثيات والتفصيلات إلا فيما ندر. بما يتضمن تعزيز ثقافة الاختلاف وعدم جرها إلى دهاليز الخلاف الذي لا يؤدي لنتيجة إيجابية ناجعة، أو لا يحقق النتائج المرجوة.
المسألة ترقى على مستوى الاستماتة من أجل طرح الأفكار وخوض الحروب دفاعاً عنها، لتحقيق الهدف الخاص – أو غير المعلن، وترقى على النبش في الثغرات للبدء بضرب الحلقة الأضعف من حديث الآخر والانتصار عليه، فالأمر ليس استعراضاً للقوى الفكرية والاقناعية والقدرات اللغوية، كما إن جلسات الحوار –أياً كانت– ليست ساحة ملاكمة نفسية توجه من خلالها الضربات عبر أثير مشحون بالمنغصات، ولا هي قاعة اختبار لكاريزمية أحدهم.
الحوار يتطلب الاعتراف بالآخر، احترام عقله، الاستنارة بأفكاره وآرائه ومقترحاته الفاعلة، متى ما كان الطرح عقلانياً ومجدياً، وعلى العكس، رفض الفكرة أو عدم قبولها إذا لم تكن ذات منفعة حقيقية في موضوع الحوار. وليس لذلك ثمة علاقة بشخص المحاور أو انتمائه أو أية تفصيلات أخرى ذات ارتباط بذاته ومرجعياته. ولا ضير من رفض فكرة المتحاور أو تحويرها لوجهة أفضل بمزيد من التعديلات على تفاصيل الطرح، حيث يتم تلاقح الأفكار بين المتحاورين وصولاً لتكوين باقة من الأفكار الخلاقة الإيجابية والمحققة للأهداف المنشودة. فالغاية هنا اتساع الأفق في الأجواء الحوارية وعدم احتكار الفرص لأحدهم على حساب الآخرين، باعتباره صاحب الحكمة المطلقة أو المحاط بهالة من القدسية الفكرية.
المتحاورون لا ينتمون لبيئة واحدة بالضرورة، وتعدد البيئات ظاهرة صحية في أغلب حالاتها، نظراً لمنح المجتمع فرصة أكبر في اجتذاب الأفضل من كل ثقافة، كما إنه يلبي اختلاف البيئات أبعاداً ثقافية ونفسية واجتماعية وتكوينية مختلفة، يترتب عليها كثير من التنوع والثراء في الطرح. لا سيما إن اختلفت التخصصات الأكاديمية والخبرات والمعارف بين المتحاورين، فتكون ثمة مناقشة إيجابية ذات أبعاد عميقة ومتعددة. فضلاً عن جانب آخر له أهميته كذلك.. فإن لم يكن لأحدنا القدرة على تطبيق نظرية القبعات الست، لا ضير إن قدمت لنا أجواء الحوار عدداً من تلك القبعات، في عملية تبادلية طبيعية وتلقائية للأدوار بين المتحاورين، حسب القضايا والموضوعات، ودونما انحياز.
ومما يجدر التنبه إليه أن الدخول إلى الحوار لا يعني تحقيق كل طرف لما يصبو إليه، وإنما التوصل لحلول وسط ترضي جميع الأطراف بما يحقق الصالح العام. وإن الوصول لتسويات ما، لا يعني بالضرورة تقديم التنازلات، كما لا يعني أيضاً تحقيق المكاسب على المستوى الشخصي أو الحزبي لأي طرف على حساب الآخر، وإنما كل ما نرجوه هو أن نصل ببحرين الأمان لمرسى الأمان.