الرأي

مقاصد الدولة المدنية أو شرعية التسلط!

مقاصد الدولة المدنية أو شرعية التسلط!

لعل المبالغة في الحديث عن “مدنية الدولة” أو”الدولة المدنية” خلال الأشهر الأخيرة من قبل رموز التيارات الدينية تحديداً، يبدو للوهلة الأولى كمفارقة غريبة بأن تصدر مثل هذه التأكيدات من تيارات معروف عنها تأييدها ومطالبتها بإنشاء دولة دينية، بل وبالعودة إلى نظام الخلافة الإسلامية في بعض الأحيان، ووجه المفارقة أيضاً أن الدولة العلمانية هي النموذج المقابل للدولة الدينية بالمفهوم الكنسي الذي ساد في العصور الوسطى واستعمل البعض كلمة العلمانية على أنها فصل الدين عن الدولة أو فصل الكنيسة عن الدولة، فيبدو وكأن أصحاب الدعوات من التيارات الدينية يدعون أنهم يوافقون على بناء دولة “علمانية” المهم أن يكونوا هم من يديرونها. ولكن فحص المقاصد والتأويلات والتفسيرات لـ مصطلح “الدولة المدنية” لدى هؤلاء يؤول إلى القول إن أغلب هذه التيارات ترى -وهي تتحدث عن هذا الموضوع- أن “الدولة الإسلامية” في مجملها “دولة مدنية” لأن حكامها وملوكها كانوا مدنيين، ولم يكونوا رجال دين، وإن كانت الدولة تطبق أحكام الشريعة، وبهذا المعنى فهم يؤيدون قيام دولة يكون الوصول للحكم فيها بطريقة الانتخاب طالما يضمنون الأغلبية... دولة فيها انتخابات وبرلمان ورئيس منتخب ووزارات وأنظمة وقوانين وتشريعات ورقابة ومحاسبة إلخ ..في حين أن مفهوم الدولة المدنية- والصحيح هو الدولة الديمقراطية- يرتبط بالضرورة بـ:
- المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية والجغرافية والطائفية.
- مؤسسات الدولة وسلطاتها التشريعية والتنفيذية منفصلة بعضها عن بعض، ويديرها مدنيون يخضعون للمساءلة والمحاسبة والإقالة والاستبدال والمحاكمة عند الضرورة.
- لا دخل لرجال الدين في إدارة شؤون الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا سلطة لهم ولا سلطان، فهم مواطنون كبقية المواطنين ولكن استبعاد رجال الدين من السلطة، لا يعني استبعاد المتدينين منها، ولكن المقصود ألا تجتمع السلطتان السياسية والدينية في قبضة رجل واحد حتى لا يتحول إلى شخص فوق القانون وفوق المحاسبة (رجل فتوى بفتواه يتحرك الآلاف إلى الشارع لا يبقون ولا يذرون.. مثلاً!!).
- مدنية الدولة تمنع تحويل السياسة إلى صراع حول العقائد الدينية أو الشرائع السماوية، بل تبقيها صراعاً سلمياً بين رؤى وأفكار وبرامج وقوى ومؤسسات لاختيار الأفضل للدولة والمجتمع.
- مدنية الدولة تعني بالضرورة خضوع الجميع للمحاسبة والتقييم والمراجعة وفقاً لما ينص عليه القانون، وتعني الشفافية الكاملة وإمكانية الطرح العلني لجميع الرؤى والأفكار والبرامج الهادفة لتحقيق الصالح العام في ظل قبول التعددية واحترام الرأي الآخر.
وبهذا المعنى فالدولة المدنية هي في النهاية الدولة الديمقراطية التي تدار بشكل ديمقراطي بمضمون ديمقراطي يضمن الحريات العامة والخاصة والحق في الاختلاف واحترام حقوق الأقليات وعدم التمييز بأي شكل من الأشكال بين المواطنين، ويديرها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والتخطيط والسياسة والاقتصاد والتقنية، وليس علماء الدين أو الفقهاء بتعبير آخر.
إن “الدولة المدنية” ارتبط وجودها بالثورة الصناعية في أوروبا والتي تأسست من مؤسسات المجتمع المدني: النقابات الأحزاب، الصحافة، الجمعيات التعاونية والخيرية.. كل هذه أسست للدولة المدنية الديمقراطية، حيث هناك رابط قوي وجدلي بين “الدولة المدنية” وبين الديمقراطية بمفهومها الليبرالي، لا يمكن الفصل بينهما حتى تتحول مدنية الدولة إلى مجرد شكل خارجي مظهري يكاد يقتصر على الانتخابات ونواتجها الهيمنية التي تمنح الأحزاب الدينية شرعية التسلط على الدولة والمجتمع باسم الدين.
إن مدنية الدولة (أو ديمقراطية الدولة على الأصح) تعني بالضرورة رفض ولاية الفقيه، ورفض ولاية المرشد أو ولاية الحزب الديني مطلق الصلاحيات، ولذلك فإن الذين يتحدثون عن أن “الشعب هو مصدر السلطات” يجب أن يعلنوا صراحة، قولاً وفعلاً تحررهم من ولاية الفقيه وولاية المرشد، لأننا لما نعلن أن “ الشعب مصدر السلطات” فإن ذلك يعني أن هذه “السلطات مدنية بالضرورة وليست دينية” من اللازم أن تتكون عبر مشاركة المجتمع بمختلف شرائحه وفئاته، والأفكار والاتجاهات والتيارات الفكرية والثقافية الموجودة فيه، ولا نقصد هنا بالضرورة فصل الدين عن الدولة، لأن الدين مكون أساس من مكونات المجتمع.. نحن ننظر أن رجل الدين كجزء من المجتمع، ولكنه لا ينوب عن الشعب ولا يتكلم باسمه، وليست له ولاية على الشعب، فالديمقراطية تبدأ بالتخلص من هذا النوع من الولاية- الهيمنة..
^ همس..
الإمام الشافعي يقول: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب”..
الإمام مالك -إمام دار الهجرتين- يقول: “كل منا مأخوذ من رأيه ومردود إلا صاحب هذا القبر”.