الرأي

الهجمة على غزة .. الجـــريمـــة والعقـــــاب

الهجمة على غزة .. الجـــريمـــة والعقـــــاب

لم تنجُ «إسرائيل» المحاصرة بالأقواس هذه المرة بجريمتها، فقد كالت لها المقاومة الصاع صاعين، وكما استشهد فلسطينيون وهم يواجهون العدوان، فقد قتل إسرائيليون هذه المرة وقصفت تل الربيع وقصفت مستوطنات القدس لأول مرة.. إنها المعادلة الجديدة التي سوف تجبر إسرائيل المحاصرة مهما طال الزمن على القبول بالحق الفلسطيني الذي لن يتوقف الفلسطينيون عن المطالبة به مهما طال الزمن.
فاقت آثار الجريمة الإسرائيلية في غزة الخيال، حيث ظهر حجم العدوان والتدمير والتطهير منعكساً في الصور الفظيعة التي شاهدها العالم، انبرى الجميع -باستثناء مرتكب العدوان والواقف معه والمتواطئ والمنافق وصاحب المصلحة- ليعلنوا إنها جريمة حرب.. قالوا إنها المحرقة الجديدة، وإنها نوع من التطهير العرقي والإبادة الجماعية.. تتكرر كل مرة بعناوين مختلفة قالها سياسيون وإعلاميون وناشطون حقوقيون، مثقفون وأدباء وكتاب.. لكن لا يبدو في المقابل أن هنالك شيئاً عملياً جدياً على طريق محاسبة الكيان الإسرائيلي المحتل على أبشع أنواع الجرائم التي ارتكبت في غزة، مما يوحي أن الكيان قد نجا بفعلته، وأنه قد حصل عملياً على صك الغفران من العرب والأوربيين على حد سواء.
آلة العدوان الإسرائيلية أنهت «قتلت جرحت وشوهت وشردت آلاف الفلسطينيين ككل مرة بدم بارد، أكثر من نصفهم من الأطفال، وربعهم من النساء، مستخدمة في ذلك كافة أنواع الأسلحة، بما في ذلك المحرمة دولياً في الحروب النظامية فما بالك في المجازر الموجهة ضد المدنيين.. دمرت ما بقي من البنية التحتية في قطاع غزة، دمرت المدارس والمساجد والمنازل والمحلات التجارية والمؤسسات الحكومية التي تنظم حياة الناس ودور العبادة بأنواعها، وحتى الطرقات والجسور وأعمدة الإنارة..
لم تنهِ آلة القتل فعلها الإجرامي وانصرف الكلام العربي والدولي بكل هدوء وبرود إلى مهمات «عادية جداً» وكأنه لا شيء قد حدث؛ بحث التهدئة ووقف إطلاق النار، إعادة الإعمار، توفير مواد الإغاثة، بدء الحوار من جديد بين الضحية والجلاد.
في كل مرة تنجز آلة العدوان مهمتها، وتعود لتجلس في ظل الاستراحة، بما يوحي أن الأمر بالنسبة إليها لم يكن سوى نزهة قصيرة أنهت فيها المهمة على أكمل وجه، ولم يحدث في الواقع شيء كبير؛ فحفنة من العرب قتلوا أو «تبخروا في الجو»، على حد تعبير رابين السابق ورابين الجديد، وأما المباني والدور التي هدمت فسوف يتكفل المال العربي بالتعويض عنها، وسيتولى الأوربيون واليابانيون إعادة إنشاء البنية الأساسية التي هدمتها إسرائيل، كالعادة، في إطار توزيع الأدوار بين الشرطي الشرير والشرطي الطيب، أما الدماء التي أريقت في الشوارع والطرقات، فلا أحد يتحدث عنها تقريباً، إنهم يتكلمون فقط عن الدم الإسرائيلي (الغالي) الذي أريق هذه المرة في إطار تغير معادلة المواجهة. وهذا ما يقلقهم فقط، وما عدا ذلك فلا شأن لهم به.
إن الجريمة الإسرائيلية هذه المرة لم تمر هكذا دون عقاب وقد تكفلت المقاومة الفلسطينية في غزة برد العدوان ولو كان جزئياً، ولكن على العرب -رسميين كانوا وغير رسميين- التركيز على محاسبة الكيان الصهيوني على الصعيد الدولي قانونياً وأخلاقياً وسياسياً، بحيث تتحول جريمة غزة إلى لحظة تاريخية ترمز إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعدوانية الصهيونية المتجذرة، هذا هو العمل الأهم في المرحلة المقبلة إذا أراد العرب ألا تتكرر الاستهانة بدمائهم على هذا النحو.
إن العدوان على غزة أثبت أن الأيديولوجية التي يتأسس عليها الكيان الصهيوني تتنافى جوهرياً مع التعايش السلمي، وهو ما يعني أن الحاجة الموضوعية لإقامة ترتيبات ولو مؤقتة للتعايش تتعارض مع ما يمكن تسميته ميلاً فطرياً للعنف لدى قادة الكيان الصهيوني ومستعمريه ولا نصدر هذا التقييم جزافاً بل بالإشارة إلى أن العدوان على غزة يأتي في سياق الإعداد للانتخابات التشريعية داخل الكيان الصهيوني وهو إعداد يتناقض مع كل ما هو متعارف عليه في بقية الأقطار والتي تقيم البرامج الانتخابية على خدمة السكان والتأكيد على الاندماج الإٌٌقليمي وليس على العدوان والقتل. وهذا يحيلنا إلى أن العدوان على غزة سوف يعمق المأزق السياسي والأخلاقي الذي ما انفك يتردى فيه الكيان الصهيوني خاصة وأن إمكانية التورط السياسي والعسكري في أوحال غزة المتحركة تبقى واردة بل تدعمها عديد المؤشرات التي يبدو من أهمها حالة الاستنفار في الجيش الصهيوني ودعوة أكثر من 75 ألفاً من قوات الاحتياط لمواجهة غزة او للزحف عليها مجدداً.
وإذا كان التفاعل الوجداني مع مجريات العدوان على غزة يحول دون التفكير العميق في مجريات الأحداث فإن بعض الإشارات السريعة تفرض نفسها:
- لقد أسقط العدوان الصهيوني على غزة ورقة التوت التي كان دعاة التطبيع في مختلف المستويات يحاولون التستر بها ولا شك أن الرأي العام العربي سيكون أشد صرامة في رفض التطبيع والتعدي له وأن مهمة التصدي للتطبيع تعتبر حاليا أولوية تتساوق مع المهام الوطنية المتصلة بالنضال الديمقراطي وفرض احترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان.
-لا شك أن محاولات تأثيم حركة حماس تبقى مرفوضة في هذا الظرف الذي يفرض إعطاء الأولوية لمنطق المساندة، ولكن يبقى من حقنا التساؤل حول آليات التفكير السياسي للحركات الإسلامية وحول تعاطيها مع القضية الفلسطينية محل مراجعة.
-هناك مأزق سياسي وأخلاقي قد تردى فيه الجناح السياسي الفلسطيني المتنفذ في الضفة الغربية، حيث لم يكن بوسعه إقناع الرأي العام الفلسطيني والعربي بوجهة نظره، وأنه ليس أمامه لكي يتجاوز هذا المأزق إلا تقديم تنازلات سياسية والعمل على استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية والتركيز على موضوع التحرر الوطني بدلاً من التركيز على توزيع المناصب والرايات والنجوم والرتب العسكرية المزيفة..!