الرأي

زلة لسان قاتلة

نــــوافـــذ

أقامت المقابلة التي بثها تلفزيون القناة الثانية الإسرائيلية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس الدنيا ولم تقعدها؛ إذ لاتزال تداعيات ردود الفعل إزاءها تثير كثيراً من الجدل داخل صفوف القوى السياسية الفلسطينية، فقد انهمرت ردود الفعل تلك على ما جاء في تلك المقابلة «شاجبة»، ما أدلى به عباس من تصريحات، أو واضعة مضمونها في مستوى الخيانة، حتى وصل الأمر إلى درجة مطالبة عباس بالاستقالة كونه فرط في الحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني. قبل تقويم ما ورد في تلك المقابلة من مواد وما نجم عنها من ردود فعل، ربما هناك ضرورة لتلخيص أهم ما جاء فيها والذي قاد إلى استهجانها.
لقد قطع عباس على نفسه في تلك المقابلة وعداً علنيا بأنه طالما بقي في السلطة «فلن تكون هناك أبداً انتفاضة مسلحة ثالثة» ضد إسرائيل، رامياً من خلال ذلك إلى «تأكيد سيطرته على الأمن في المناطق التي يديرها الفلسطينيون بالضفة الغربية».
وانتقل من ذلك كي يؤكد رفضه للعنف عندما قال «لا نريد أن نستخدم الإرهاب، لا نريد أن نستخدم القوة، لا نريد أن نستخدم الأسلحة، نريد أن نستخدم الدبلوماسية، نريد أن نستخدم السياسة، نريد أن نستخدم المفاوضات، نريد أن نستخدم المقاومة السلمية».
وأكمل ذلك بالقول «ليس له حق دائم في المطالبة بالعودة إلى البلدة التي طرد منها وهو طفل أثناء حرب 1948 التي قامت في أعقاب إعلان تأسيس إسرائيل.. لقد زرت صفد مرة من قبل لكنني أريد أن أرى صفد، من حقي أن أراها لا أن أعيش فيها».
ورسم عباس حدود فلسطين كما يريدها هو قائلاً «فلسطين الآن في نظري هي حدود 67 والقدس الشرقية عاصمة لها. هذا هو «الوضع» الآن وإلى الأبد.. هذه هي فلسطين في نظري. إنني لاجئ لكنني أعيش في رام الله. أعتقد أن الضفة الغربية وغزة هي فلسطين والأجزاء الأخرى هي إسرائيل».
هذا تلخيص لأهم ما جاء على لسان عباس في تلك المقابلة. ربما يكمن الخطأ القاتل في جوهر ما أدلى به عباس من تصريحات، توهمه أنه كان يخاطب الرأي العام العالمي، وعلى وجه التحديد الإسرائيلي منه فحسب، متناسياً في غمرة ذلك أن هناك مُشاهِداً فلسطينياً في جميع أنحاء العالم يتابع كل كلمة قالها. وبالتالي ركز عباس في مقابلته على كل ما من شأنه، وهذا اجتهاد منه، على نزع صفة «الإرهاب» الراسخة في أذهان العالم والإسرائيليين عن الفرد الفلسطيني، لزرع مكانها صورة أخرى «حضارية» تثير بعض عناصر الثقة والاستقرار في صفوف المواطن الإسرائيلي. لقد زل لسان عباس عندما أسقط من حسابات تصريحاته وعي وشعور المواطن الفلسطيني واستبدله بالرأي العام الإسرائيلي.
ومن هنا جاء ما يمكن وصفه بزلة اللسان التي استدرجت عباس إلى كل تلك التنازلات المجانية التي قدمها لإسرائيل، والتي جعلت شخصاً مثل الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز يعتبر «أبومازن يثبت بأقواله وأفعاله أنه يوجد لإسرائيل الآن شريك حقيقي للسلام». ويصفها بـ»الشجاعة»، حيث إن هذا الموقف، كما يقول بيريز «يتوافق تماماً مع مواقف إسرائيل وغالبية الشعب التي تؤيد حل الدولتين لشعبين؛ هذا تصريح علني شجاع ومهم».
لكن؛ ومن أجل استكمال صورة ردود الفعل الإسرائيلية ينبغي عدم الاكتفاء بعينة واحدة منها كتلك التي جاءت على لسان بيريز، إذ إن هناك أيضاً من جاءت مواقفه نافية لها من أمثال رئيس مجلس المستوطنين داني دايان الذي اعتبر موقف عباس أنه «يتنازل على ما يبدو عما ليس له، فأرض إسرائيل لنا، هي بأيدينا وستبقى كذلك وما يسمى بالخط الأخضر تم مسحه نتيجة العدوان العربي».
على نحو موازٍ كان رد مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مذكراً أن «عباس يرفض منذ 4 سنوات استئناف المفاوضات مع إسرائيل ويرفض مناقشة الترتيبات الأمنية المطلوبة للدفاع عن مواطني إسرائيل».
وبين ذينك التصريحين هناك ما أدلى به المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية بول هيرشسون، الذي اعتبر «إن المسؤولية مازالت تقع على عاتق عباس للعودة إلى المفاوضات، مضيفاً: إذا كان يريد أن يرى صفد أو أي مكان آخر في إسرائيل فإنه في ما يتعلق بذلك سيسعدنا أن نريه أي مكان. لكن يجب أن تكون هناك رغبة في المضي قدماً في عملية السلام».
دون الحاجة لاستعراض جميع ردود الفعل العربية، وفي القلب منها الفلسطينية، لإثبات الاستهجان الذي بثته تلك التصريحات فيها جميعاً، نكتفي بالاستشهاد بالأكثر قسوة فيها على عباس، وهو ما جاء على لسان المتحدث باسم حركة حماس سامي الأزهري حين قال «إنه لن يقبل التنازل عن حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وقراهم وبلداتهم التي نزحوا منها، وإنه إذا كان أبومازن لا يريد صفد فإن صفد سيشرفها ألا تستقبل أمثاله». وقد جاءت الغالبية من ردود الفعل الفلسطينية رافضة لتلك التصريحات، وداعية عباس للتراجع عنها، باستثناء المتحدث الرئاسي نبيل أبوردينة في تصريحات بثتها وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية «وفا» تعليقاً على الغضب الذي قوبلت به تصريحات عباس للتلفزيون الإسرائيلي، حيث وصف أبوردينة تلك الانتقادات بأنها «زوبعة تثيرها من وصفها بأنها جهات معروفة لاستثارة الرأي العام هدفها الانقلاب على الشرعية، مضيفاً أن مقابلة تلفزيونية لا تعني مفاوضات، مشيراً إلى أن هدف تلك المقابلة كان التأثير في الرأي العام الإسرائيلي، مشدداً على أن عباس والقيادة الفلسطينية لن يقبلا بدولة ذات حدود مؤقتة، ومن يقبل بدولة مؤقتة هو الذي يتنازل عن حق العودة ويضرب الثوابت الوطنية ويتسبب بكارثة للأجيال الفلسطينية القادمة».
لاشك أن عباس كان مخطئاً فيما ذهب إليه من التزامه الإيفاء بوعود قطعها على نفسه وكبل بها السلطة الفلسطينية، ما لم تكن التصريحات مبنية على التزامات يهودية - عالمية، أن هناك ثمناً مقابلاً لها، ماذا وإلا فمثل تلك التعهدات من طرف واحد، ومع دولة استعمارية متغطرسة مثل إسرائيل، تكون بمثابة دفع فواتير سياسية مجانية لقاء حسابات خاطئة، بما فيها تلك التي تعلق أوهاماً كبيرة على التأثير على الرأي العام الإسرائيلي في فترة قريبة من الانتخابات البرلمانية القادمة التي ستجري يوم 22 من يناير، والتي تتوقع العديد من استطلاعات الرأي «فوزاً سهلاً لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو واليمين السياسي الإسرائيلي»، الذي أكد أنه «يريد استئناف المحادثات مع عباس لكنه يدعم الاستيطان اليهودي في القدس الشرقية والضفة الغربية وهو السبب الذي أبداه الفلسطينيون للانسحاب من الجولة الأخيرة من المفاوضات في عام 2010