الرأي

من التحررية والعدالة.. المشروعية الديمقراطية بديلاً عن المشروعية الدينية

من التحررية والعدالة.. المشروعية الديمقراطية بديلاً عن المشروعية الدينية

أي مشروع لا يعبر عن أسس الدول التحررية التي تحترم الحريات العامة والخاصة وتصون حرية الإنسان وحقوقه في كل شيء، لا يمكن أن يكون مشروعاً ديمقراطياً. وأي مشروع لا ينهض على أساس من العدالة وتكافؤ الفرص بين الناس لن يكتب له الاستمرار لأن الناس لن يقبلوه في النهاية، مهما كان قوياً ومهماً وامتلك من أدوات تزييف الوعي والكذب والوهم، ومن هذا المنطق فإننا نعتقد أن بناء الدولة الديمقراطية واستمرارها لا يمكن أن يتحقق من خلال القوى الاجتماعية الطائفية المحافظة، لأنه ينهض بالأساس على الطبقة الوسطى التحررية المستنيرة، لأن هذه الطبقة هي المستفيدة من الديمقراطية أكثر من الفئات الأخرى، والمصيبة اليوم أن هذه الطبقة تآكلت عندنا بشكل كبير وتزعزعت مكانتها لأسباب متعددة، والقوى المتسيدة اليوم للساحة هي القوى المحافظة المستندة إلى ثقافة تقديس لرجال الدين وتغييب العقل والمساءلة وتعمد الخلط بين القيم والشعارات التي ترفع الديمقراطية والحرية شكلاً والممارسات الاستبدادية مضموناً.
الكل يعلم اليوم أن المسألة الديمقراطية ترتبط بعنصري الحوكمة والمساءلة بقدر ارتباطها بالحداثة والحرية واحترام الأديان والخصوصيات وتعايش الأفكار على اختلافها، بعكس ما هو سائد عندنا من نظرة سطحية تركز على الصراع على السلطة (استعادة للمنظور البدوي في الصراع على الماء والكلأ) ولذلك يتم التركيز فقط على الانتخابات وعلى السيطرة على السلطة والموارد (يلاحظ طبيعة النقاش بين القوى السياسية في العراق والسودان وليبيا حالياً حول تقاسم النفوذ والثروات).
كما إن الديمقراطية لا يمكن أن تنبت أبداً عن مسألة الحداثة التي اقتصرت في أغلب البلاد العربية على (التمدن المادي والمظهري) مع الاحتفاظ بالبنى الطائفية والقبلية والدينية مهيمنة على حياة الفرد ومصيره وعلى حياة المجتمع ومصيره إلى درجة أن هذه التي ماتزال في لبنان والعراق واليمن والسودان والصومال تتخذ الطابع الميليشاوي تحديداً، فكل فريق يمتلك السلاح والمليشيات المسلحة ويهيمن على مناطق جغرافية باتت معروفة باسمه ومقصور دخولها وسكناه على هذه الفئة دون غيرها، هذا بالإضافة إلى الغياب شبه الكلي لمظاهر وحدة الدولة (لكل علمه ولكل مذهبه ولكل أعياده ونشيده وتعليمه ومساجده ومستشفياته وإذاعاته وقنواته الفضائية.. إلخ).
فالحداثة التي يتحدث عنها الدينيون الطائفيون هي مرادف للدولة المدنية التي يكثرون من الحديث عنها، والتي تعني في النهاية المظاهر الحديثة (زمنياً) للدولة لا أكثر ولا أقل، بما هي مؤسسات ووزارات ومراكز شرطة ومطارات ومدارس وجامعات، وليست فكراً ولا آلية للحكم وليست تبنياً لقيم العمل المنتج والشفافية والحوكمة وتكافؤ الفرص.
كما إنه لا ينبغي أن نغتر بالظواهر؛ فملكة بريطانيا مازالت دستورياً رئيسة الكنيسة، ورغم ذلك فإن السياسي في بريطانيا مستقل عن الديني، لأن حركية التاريخ والمجتمع فرضت هذه الاستقلالية وفرضت المشروعية الديمقراطية بديلاً عن المشروعية الدينية، لهذا فالأنظمة ومعها المجتمعات العربية لابد أن تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها سائر المجتمعات الديمقراطية. فيجب التمييز بين المستويين السياسي والديني بدلاً من الحديث عن فصل الدين عن الدولة، فنحن بحاجة إلى إيجاد استقلالية السياسي عن الديني كأن تكون قواعد اللعبة السياسية محترمة بدون أن يتدخل الديني في هذه اللعبة السياسية، وبدون أن يستغل الديني من قبل السياسي. فهذا هو المطلب الذي ينبغي أن نعمل على تجسيده، ولكنه ليس حلاً جاهزاً، فهو من المطالب التي ينبغي أن نسعى إليها عبر الممارسة والحوار بين مختلف القوى الموجودة داخل المجتمع.