الرأي

تطويق إيران (2)

نـــوافــــــــذ

يحاول البعض من أمثال الكاتب العامل في مؤسسة “موسكوفسكي نوفوستي” الروسيّة علي شرف الدين أن يؤرخ لمشاريع الغرب الرامية إلى تطويق إيران بزيارة وزيرة الخارجية الأمريكيّة هيلاري كلينتون الأخيرة لدول القوقاز، والتي كانت كما يقول شرف الدين “تُخفي وراءها أهدافاً سياسية غير معلنة أهمها محاولة تطويق إيران وعزلها وإطاحة طموحاتها الإقليميّة”. فإضعاف الخصم، كما يقول شرف الدين “يبدأ بمحاصرته بأنظمة فاشلة وغير مستقرة، أي عزله جيوسياسياً”.
لكن سير الأحداث يثبت أن مشاريع تطويق إيران تعود إلى مرحلة أبكر من ذلك التاريخ، بل وحتى قبل مجيء الإدارة الديمقراطية بقيادة باراك أوباما إلى البيت الأبيض. ففي 13 فبراير 2008 نقلت صحيفة الشرق الصباحية الصينية، التي كانت تتابع جولة الرئيس الأمريكي الجمهوري جورج بوش الابن حينها في الشرق الأوسط، قوله في خطاب ألقاه في دولة الإمارات العربية المتحدة “إن إيران تهدد الأمن العالمي، ويجب على الولايات المتحدة والدول العربية أن تتحالف لمواجهة هذا التهديد قبل الوقت المتأخر جداً”.
لكن ما هو أهم من التأريخ لنقطة بداية مشروع التطويق هو تشخيص سماته الأساسية بجوانبها المختلفة. إذ تتداخل في ذلك المشروع التهديدات العسكرية مع المشروعات السياسية، سوية مع الإجراءات الاقتصادية التي يمكن إجمالها جميعها في النقاط التالية:
على المستوى العسكري؛ هناك مشروع تطويق إيران بحزام عسكري معاد لها، ويحمل في ثناياه نواة التناقضات العسكرية الموضوعية بين إيران وتلك الدول المنضوية في مثل ذلك الحزام. بدأت واشنطن في التفكير في هذا الاتجاه بعد بروز بعض الخلافات بين واشنطن وتل أبيب حول من يتولى توجيه ضربة عسكرية مباشرة تتولى تدمير المشروع النووي الإيراني. وهو أمر وردت إشارة له في مقال قيم يناقش هذا الخيار جاء فيه بعد أن أصبح “اللجوء إلى الخيار العسكري أمراً مختلفاً عليه إسرائيلياً وأمريكياً وعربياً. هناك مدرسة فكرية تقول إن من الغباء إعطاء طهران ذخيرة دعم إسلامي ودعم داخلي للنظام يحييه من العزلة ويقدم له حبال النجاة”.
لكن واشنطن وتل أبيب، وإن اختلف وجهتا نظرهما حول من يتولى توجيه الضربة لطهران، تبقيان متفقتان على مشروع التطويق، والذي تؤكده مسارعة إسرائيل إلى جمهورية أذربيجان الإسلامية المتاخمة لإيران لكونها، وكما يقول الباحث في شؤون الشرق الأوسط جوزيف ملكون في مقالته المعنونة “تطويق إيران عسكرياً وأوباما يفضِّل الحل الدبلوماسي”؛ أفضل دولة بوسعها أن “تنفذ خططاً بعيدة المدى إذ تمكنت من استمالتها إلى جانبها فوقّعت صفقة أسلحة ضخمة بقيمة 1.6 مليار دولار في فبراير 2012 شملت طائرات دون طيار وصواريخ مضادة للطائرات وأنظمة دفاع مضادة للصواريخ وأجهزة إلكترونية دقيقة ومستلزمات الكمبيوترات العملاقة”.
من جانبها وافقت أذربيجان على “تزويد إسرائيل بنحو 30% من حاجتها من مصادر الطاقة المختلفة بعدما ظهرت بوادر أزمة طاقة وغاز إثر قرار الشركة المصرية للغاز بوقف نقل الغاز المصري إلى إسرائيل وتعرض خطوط الإمداد إلى التفجير مرات عدة”. وينقل الكاتب عن مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية ما اقتطفته على لسان مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية جاء فيه “أن إسرائيل قامت بشراء قاعدة جوية مهجورة في أذربيجان تقع بالغرب من الحدود الإيرانية فأهلتها لتكون جاهزة للاستعمال عند الحاجة”.
ومن الطبيعي ألا تترك واشنطن جميع الأوراق بيد تل أبيب وحدها حيال موضوع استراتيجي بثقل “الحالة الإيرانية”، ولذلك وجدناها في سياق ذلك التطويق العسكري “بصدد تقوية وجودها العسكري في أفغانستان، ولذلك وجدنا واشنطن تنشئ تسع قواعد عسكرية جديدة في أفغانستان في محافظات هلمند، هرات، نيمروز، بلخ، خوست وباكتيا”.
هذا على المستوى العسكري، أما على المستوى السياسي فتتحرك واشنطن على محورين، الأول خارجي ويهدف إلى عزل إيران عن محيطها الخارجي المتحالف معها وفي مقدمة صفوفه دول مثل سوريا وروسيا، وهذا ما يفسره تأجيج الصراع داخل الساحة السورية دون أن يصل إلى نقطة الحسم، الأمر الذي يتيح زرع بذرة الصراعات داخل صفوف الحلفاء نظراً للأعباء السياسية التي تثقل كاهل أي تحالف سياسي عندما تطول أمد الصراعات التي يخوضها أحد أطرافه.
المحور الثاني السياسي هو داخلي؛ إذ تحاول واشنطن إنهاك طهران من الداخل وفي اتجاهين، الأول عندما وافقت على حذف اسم “منظمة مجاهدي خلق الإيرانية” من قائمة المنظمات الإرهابية، والثاني وهو مستمر منذ العام 2005 وكشف عنه مراسل شؤون الاستخبارات لاتحاد الصحافة الدولية UPI، ريتشارد سال، من سماح الجنرال الباكستاني برويز مشرف “لمقاتلين متمردين عن النظام الإيراني للنشاط من محافظة بلوشستان التابعة لباكستان المتاخم لإيران. وادعى بأنه من بين المقاتلين عناصر من حركة مجاهدي خلق المُدرجة (حينها) رسمياً كمنظمة إرهابية بوزارة الخارجية الأمريكية. والمجموعات الكردية المعادية لإيران يمكن أن تكون مقرها في إقليم بلوشستان لأن الأكراد عرقياً مشابهون للبلوش”. ولم تكتف واشنطن بذلك، بل وسعت من محيط التطويق كي يشمل الجانب الاقتصادي الذي لم تكن تل أبيب هي الأخرى بعيدة عنه، ذلك ففي منتصف العام 2008 اقترح كما كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت “على الولايات المتحدة الحد من اتصال إيران مع العالم الخارجي من البحر والجو لتجميد برنامجها النووي.. بتطويق إيران من البحر باستخدام القوات البحرية الأمريكية للحد من تحرك الأسطول التجاري الإيراني وفرض قيود على تحليقات الطيران المدني الإيراني ورحلات رجال الأعمال والمسؤولين الإيرانيين الكبار، رجال الأعمال الإيرانيون الذين سيحرمون من فرص السفر إلى الخارج سيضغطون على النظام”.
وقد بدأت التأثيرات السلبية للحصار الذي فرضه الغرب على الاقتصاد الإيراني، ومن بينه حظر التعامل معه بالانهيار الذي شهده سعر الريال الإيراني مقابل العملات الأخرى، والذي سيولد مجموعة من الضغوطات على طهران التي ستعاني جراء ذلك خسائر في إيراداتها النفطية تقدر بحوالي 50 مليار دولار للعام 2012، وهو كما تراه العديد من المصادر الاقتصادية “نقص كبير في موارد النقد الأجنبي للدولة كان من الممكن أن يساعد في سد الجانب الأكبر من النقص في العرض من الدولار والعملات الأجنبية الأخرى وهو ما كان يمكن أن يساعد في خفض الضغوط على الريال نحو التراجع”.
يضاف إلى ذلك النشاط المتوقع، يحذر منه خبراء اقتصاديون من أمثال محمد إبراهيم السقا أن تشهده “عمليات التهريب السلعي تصديراً واستيراداً، ولأن الإيرادات الناجمة عن صادرات السلع المحلية من خلال التهريب لا تسلم إلى البنك المركزي، وإنما تأخذ طريقها إلى السوق السوداء، كما إن واردات السلع من الخارج التي تتم من خلال عمليات التهريب السلعي يتم تمويلها أساساً من خلال السوق السوداء، فإنه من المتوقع أن تشهد السوق السوداء للنقد الأجنبي نشاطاً أكبر في الفترة القادمة، وهو ما قد يتسبب في تصاعد الضغوط على الريال وتراجع معدلات صرفه”.
لكن الأمر الأخطر من كل ذلك، وهو ما يلفت له السقا أيضاً، هي تلك “النتائج التي ستترتب على تراجع الريال على هذا النحو الكبير هي أنه سيؤدي إلى تغذية كل من معدلات التضخم الفعلية والتوقعات التضخمية في المستقبل، وهو ما يوفر الظروف المثالية لخروج جني التضخم من القمقم، ومن ثم صعوبة السيطرة عليه أو استعادة الأسعار إلى مستوياتها قبل التراجع”.