الرأي

تماسك دول مجلس التعاون

نــــوافـــذ

يمكن أن يقال الكثير حول دول مجلس التعاون الخليجية من حيث قدرتها على تحقيق ما التزمت به في مؤتمرات قممها التي تجاوزت الثلاثين في عددها على طريق العمل الوحدوي المشترك فيما بينها. فليس هناك من بوسعه إنكار تلكؤ خطوات السير على طريق العملة الموحدة، وتنفيذ خطط «الربط الكهربائي»، وإنجاز مشروعات «توحيد التعرفة الجمركية»، وتحقيق برامج «المناهج التعليمية» المشتركة. قائمة طويلة بوسع المواطن الخليجي أن يسردها تصب جميعها في خانة مطالبة حكومات مجلس التعاون أن تنجز الكثير مما تعهدت به من التزامات في مسيرة تجاوزت ربع قرن من الزمان.
لكن مقابل كل تلك المآخذ، التي ليس هناك من يدعو للسكوت عليها هو التغاضي عنها، هناك إنجاز حقيقي واحد ملموس لا يمكن تجاوزه، أن هذا المشروع الوحدوي العربي رغم إقليميته وعثراته يعتبر الأفضل في مشروعات العمل العربي المشترك، حيث نجح إلى حد بعيد في الاحتفاظ بالحدود الدنيا المطلوبة من التماسك السياسي والتعاون الاقتصادي والتنسيق العسكري.
وهناك الكثير من الأمثلة التي يمكن سوقها للتدليل على صحة ذلك؛ لعل الأبرز فيها الموقف من أزمة الكويت أبان الغزو العراقي لها في مطلع التسعينات من القرن الماضي، والموقف من الجزر العربية المحتلة من قبل إيران. وفوق هذا وذاك، وباستثناء بعض الحوادث الاستثنائية المتفرقة، يمكننا القول إن دول مجلس التعاون وفقت في تحاشي الكثير من مثالب العمل العربي المشترك، واستطاعت، مستفيدة من سلبيات ذلك العمل، أن تحافظ على جوانب أخرى حققت لها ذلك التماسك الذي نشير إليه.
ما يدفعنا لسوق تلك المقدمة المقتضبة هو ما تردد مؤخراً في وسائل الإعلام عن تشجيع واحدة أو أكثر من دول مجلس التعاون بعض فصائل العمل السياسي العربية على إثارة القلاقل في دول أخرى عضوة في المجلس، أخذت أشكال المسيرات والاحتجاجات، التي رفعت بعض المطالب ذات الصبغة السياسية. ورغم شكوكنا في صحة مثل تلك الأخبار المتناقلة، لكننا ومن منطلق المسؤولية نجد ضرورة التنبيه إلى مغبة حصولها والتحذير من النتائج الوخيمة التي، فيما لو قدر الله كانت صحيحة، يمكن أن تنجم عنها.
فالمنطق السياسي العاقل يدحض تلك الاتهامات، فمن المستبعد أن تزج أية دولة من دول المجلس بنفسها في أي عمل من شأنه إثارة المشكلات في وجه دولة جارة لها وعضوة في ذلك المجلس. لكن لو افترضنا جدلاً أن مثل هذا العمل قد حصل فمن الضرورة بمكان اليوم وقبل أن يكون الوقت متأخراً، ومن منطلقات إستراتيجية طويلة المدى الكشف عن مثالبه ومساوئه التي يمكن رصدها في النقاط التالية:
1. زرع النزعات التجزيئية؛ أو ري تلك القائمة التي ما تزال في مراحلها الجنينية والتشكيك في جدوى العمل العربي الوحدوي. وهذه مسألة في غاية الخطورة، ومن الخطأ الاستهانة بها أو التقليل من التأثيرات السلبية التي تتركها على العمل الخليجي المشترك. فبدلاً من تشجيع الجهود الرامية إلى تعزيز النزعات الوحدوية المثمرة نجد أنفسنا أمام جدران مستندة إلى ذهنية سلبية كافرة بالعمل الخليجي المشترك، وتقف بشراسة في وجه المشروعات المشتركة بعد التشكيك في جدواها الاقتصادية والسياسية قبل دق المسامير في نعوشها، تهيئة لكتابة وصاياها.
2. التفريط في المنجزات التي حققتها مسيرة مجلس التعاون التي تجاوزت الربع قرن، والتي رغم صغر حجمها بمعايير العمل الوحدوي العالمية، لكنها تبقى خطوة نحو الأمام على طريق العمل الوحدوي بين كتل سياسية كانت في يوم من الأيام متنافرة بفضل عوامل متعددة، البعض منها يعود إلى جذوره القبلية والبعض الآخر مصدره تضارب المصالح الاقتصادية، هذا إذا وضعنا جانباً المشكلات الحدودية. أكثر من ذلك يمكن النظر إلى تلك الإنجازات على أنها أنوية مخصبة (بفتح الصاد) قادرة على التطور نحو الأفضل، أو إنجاب أخرى من صلبها تصب في طاحون العمل الوحدوي الخليجي المستقبلي.
3. ردود الفعل الداخلية المنفعلة المتسرعة التي تقود إلى اشتعال الفتنة بين الأشقاء وإضرام النار في جسد مشروعهم المشترك. ليس المهم هنا، في حال صدق تلك الأخبار، من هي الدولة المصدرة أو المشجعة لتلك القلاقل، وما هي المكاسب الآنية التي يمكن أن تحققها. فالتجارب التي عرفتها المنطقة العربية خلال النصف القرن الماضي، كلها تثبت أن دورة حياة تلك المكاسب قصيرة من جهة، والمضار التي تلحقها بالعمل العربي المشترك لا تقاس بأية مكاسب مهما بلغ حجمها يمكن أن تجنيها أي من دول المنظومة العربية من جهة ثانية.
4. إرجاء المشروعات الوحدوية، فمن الطبيعي أن يقود أي خلاف داخلي مهما كان ضيق دائرته إلى إعاقة، وربما في حالات معينة قبر أي مشروع وحدوي أو تنسيقي. فنشوب خلاف بين دولتين يعني أن هدم ما نسبته ثلث أعمدة المجلس، ومن ثم يصعب التقدم على طريق عمل وحدوي بين أعضاء فريق فقد جهود ثلث أعضائه، هذا إذا أسقطنا من الحساب احتمال تحول هذا الثلث إلى مجموعة من العناصر السلبية التي تقف في وجه تلك المشروعات الوحدوية وتحاول إعاقتها، إن لم يكن تخريبها.
5. هدر الجهود في التوجه نحو البحث عن حلول لمشكلات ثانوية هامشية بدلاً من تجيير القوى وصب الطاقات في المشروعات الكبرى الرئيسة. فمن جانب هناك استنزاف للقوى الداخلية كل على حدة، من جانب آخر هناك الحد من تضافر القوى في المشروعات المشتركة التي تنمي بطبيعة الحال المشروعات القطرية، وتمدها بما تحتاجه من عناصر التقوية وموارد التطوير.
6. فتح المجال أمام تدخل قوى خارجية، إقليمية كانت تلك القوى أم عالمية، تحقيقاً لأهداف تلك القوى الذاتية ودفاعاً عن مصالحها الخاصة، التي ليست متطابقة، بل ربما متنافرة مع مصالح كل دولة من دول المجلس على حدة ومصالح المجلس ككتلة سياسية متماسكة. ينبغي التنبيه هنا إلى أنه مهما بدت مصالح ذلك الأجنبي متطابقة مع مصالح أي من دول المجلس منفردة لكنها لا يمكن أن تكون متكاملة، بأي حال من الأحوال، ومتناسقة مع المصالح المشتركة للعليا لدول المجلس كافة، وإلا لم يكن هناك أي مجال لفتح أية ثغرة مهما كانت ضيقة لمثل هذا التدخل الأجنبي.
تأسيساً على كل ذلك، يأمل المواطن الخليجي أن يكون كل ما تنامى إلى آذانه لا يعدو كونه ضجيجاً إعلامياً، أرادت بعض المؤسسات الإعلامية أن يكون لها السبق في بثه، أكثر من كونه حقيقة مؤلمة لم يعد أمامنا من مناص سوى القبول بها وتجرع آلامها. وفيما لو صدقت تلك الأنباء فأدنى ما يتمناه ذلك المواطن أن تعيد تلك الدول النظر فيما أقدمت عليه، فالتراجع عن الخطأ فضيلة بينما استمرائه والاستمرار فيه رذيلة.
حفظ الله دول مجلس التعاون من كل سوء، وأبقى على كيان المجلس متماسكاً قدر المستطاع.