الرأي

ضد تسييس التشيع وليس الشيعة

نـــوافــــــــذ

«إنني أفهم جيداً خلفيات محاولات إذكاء الصراع المذهبي في المنطقة منذ قامت الثورة الإيرانية في عام 1979، وأتابع ما تنشره الصحف الأمريكية راهناً عن مواجهة محتملة بين محور شيعي، يضم النظام العلوي في سوريا مع حزب الله في لبنان والنظام الشيعي بالعراق، وبين محور سُني تقدمه مصر وتركيا والسعودية والإمارات، وتلك خلفية لا أظن أنها غائبة على جميع الأطراف، لكننا لم نرَ إلى الآن جهداً جاداً لوقف الاستدراج في ذلك الاتجاه، قبل أن تختلط الأوراق ويقع المحظور. وإذا كان يتعيّن على أهل السُنة ألا يخلطوا بين اختلافهم مع السياسة الإيرانية وبين الاختلافات المذهبية على الجانبين، فإن الحكومة الإيرانية على الأقل تظل مطالبة أيضاً باتخاذ موقف واضح إزاء عمليات اختراق مجتمعات أهل السُنة لتشييع بعض أبنائها. ذلك أن موقفنا الطبيعي هو مع إيران إذا ما تعرضت لعدوان أمريكي إسرائيلي، وأرجو ألا نستشعر حرجاً في ذلك إذا استمر بعض المراجع الشيعية في عدوانهم على مجتمعاتنا السُنية».
هذا نص، تعمدت أن يكون مطولاً، اقتطفته من مقالة للكاتب الإسلامي فهمي هويدي، نشرها موقع جريدة الشروق الإلكتروني، وحملت عنوان يقول «ضد التشيُّع وليس الشيعة»، تحدث فيه هويدي عن تلقيه خطاباً حمل «عتاباً لأحد المراجع الشيعية على الأزهر وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية لأنهم دخلوا في اشتباك مع الشيعة».
سبب التوقف عند ذلك المقال، والحرص على الاقتطاف المطول من نصوصه، يعود إلى سببين أساسيين؛ أولهما تاريخي عقيدي، وهو أننا نعيش اليوم ذكرى استشهاد سيد شباب الجنة وهو سيدنا الحسين بن علي كرم الله وجهيهما، بما تعنيه عاشوراء من ذكرى لها مدلول تاريخي توحيدي لدى الطائفتين السُنية والشيعية على حد سواء. لكن ما نشهده اليوم، وبدلاً من أن تكون مثل هذه المناسبات الدينية دافعاً لرص صفوف المجتمع العربي ولم شمله، وجدنا، وهو أمر يؤسف له، عنصر تمزيق لنسيج ذلك المجتمع وتفكيك أواصره، رغم أن هناك روايات كثيرة حول فضائل هذا اليوم لدى الطائفتين، يلخصها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة. فوجد اليهود صياماً، يوم عاشوراء. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: «هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه». فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم»، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. ومنهم من نفى «الوجوب» وحصره في إطار «السُنة». ربما تختلف الروايات في بعض التفاصيل التي ليس هناك ما يدعو لسردها، لكنها تجمع دون أي استثناء على قدسية هذا اليوم.
أما السبب الثاني وهو المعاصر ومصدره التسييس المفتعل للتشيع والزج به في أتون الصراعات السياسية القائمة في المنطقة، وتطور تلك الصورة المشوهة البعيدة عن الواقع حتى اكتسبت بعداً قومياً عرقياً، يقوم على نزاع فارسي - عربي. فوجدنا من يصر على أن يحول مدينة قم بدلاً من النجف في العراق، هي مركز التشيع، ومن ثم ربط التشيع، كما جاء في مقالة هويدي، بالسياسات الإيرانية على الصعيدين الداخلي والخارجي. وطالما أن ما يهمنا نحن العرب في تلك السياسات هو بعدها العربي، فذلك يدعونا إلى العودة إلى بعض أبجديات التحليل الاستراتيجي لتفسير السياسة الخارجية الإيرانية، وفهمها بدلاً من القفز لاتخاذ موقف مسبق منها.
تنطلق السياسة الخارجية الإيرانية سواء في محيطها الشرق أوسطي أو في فضائها الدولي، أو حتى في نطاقها الإسلامي، وبغض النظر عن الانتماء الأيديولوجي من مسلمة راسخة في أذهان من يدير دفة الحكم في طهران، وهي أن إيران بأغلبيتها الفارسية المسلمة، بغض النظر عن انتمائها الطائفي، دولة إقليمية عظمى، يعزز ذلك اتساع مساحتها الجغرافية، وموقعها الاستراتيجي الآسيوي، وحجمها السكاني، وأخيراً ثرواتها الطبيعية وفي المقدمة منها في العصر الحديث النفط.
كل ذلك يجعل كائناً من يحكم إيران يتصرف وبشكل موضوعي بعيداً عن انتماءاتهم الفكرية، بما يتفق وهذه الحقائق التي تسيطر على ذهنية المواطن الإيراني العادي قبل أن تنتقل إلى فكر أولئك الذين في الحكم. وبالتالي فعلى من يريد أن يتعامل مع إيران فهم هذه الحقيقة الموضوعية، حتى وإن شاء رفضها أو أصر على القفز فوقها.
على هذا الأساس ينبغي الفصل بين التشيع كمذهب والشيعة كطائفة من جانب، وإيران كدولة من جانب آخر، حتى عندما تصبح إيران، كما هي عليه اليوم، دولة تسيرها «شرعيات» فقه المذهب الشيعي. فلإيران بعيداً عن المذهب الديني الذي تنتمي إليه مصالح سياسية موضوعية لا يستطيع من يدير دفة الحكم في إيران الخروج من دائرتها.
مصدر الخلاف الذي يثيره الانتماء المذهبي الشيعي عندما تبدأ الدولة في تسييس المذهب، وعندما ينجر أتباع الطائفة ومن ورائهم الطائفة إلى الاستجابة بوعي أو دون وعي لذلك التسييس، هو ذلك الشرخ العمودي الذي يحدثه في جسد الأمة الإسلامية، والأهم بالنسبة لنا نحن العرب، في جسم الأمة العربية الأمر الذي يفتح المجال أمام تنشيط العوامل السلبية التالية:
1. فتح الأبواب على مصراعيها أمام القوى الأجنبية كي تستفيد من الفرص التي يتيحها لها هذا الشرخ، تنفذ مشروعاتها التي ترتكز على مبدأ «فرق تسد» كي تتمكن من إحكام قبضتها على مقدرات الأمور في منطقة الشرق الأوسط، بما يؤمن لها نهب خيراتها من جانب، ويضمن ولاءها لها من جانب آخر، بغض النظر عن المصالح الوطنية لسكان المنطقة.
2. جر المنطقة إلى خلافات ثانوية مصدرها تسييس الدين، فتنحرف الخلافات المذهبية عن طريقها الإيجابي الرحب الذي يغذي روح البحث العلمي الجاد، ويشجع الاجتهاد، ويطور من مستوى المدارس الإسلامية إلى أزقتها الخلافية الضيقة النزقة، التي تثير الشقاق وتروي تربة الإسلام بالمياه الآسنة، وتزرع فيها بذور الفتن الخبيثة، ويتحول المجتمع العربي المسلم من ذلك المجتمع المتماسك القوي إلى ذلك الفئوي المهترئ.
3. استنهاض الفئات الشريرة وتعزيز قواها وإجهاد القوى الخيرة ومحاربة مشاريعها، الأمر الذي يحول المجتمع العربي من حاضنة لعوامل التطوير والتقدم، إلى بؤرة للنكوص والتخلف على المستويين النسبي عندما نقارنه بالمجتمعات الأخرى، والمطلق عندما نقيس المنجزات بالموارد والإمكانات البشرية والطبيعية على التوالي.
من هنا لا يكمن الخطأ في الانتماء للمذهب الشيعي، إنما ينطلق الشر عندما يسيس ذلك المذهب، وليس مصدر ذلك الشيعة أنفسهم فحسب؛ بل عندما يتصرف السُنة أيضاً من مسلكيات تنطلق من الموقف المسيس «بكسر الياء» لذلك المذهب.