الرأي

متــــى يحـــــدد العـــــرب ماذا يريـــــدون؟

نـــوافــــــــذ

تناقلت وكالات الأنباء العالمية ما جاء في تقارير نشرتها بعض الصحف الأمريكية تشير إلى أن «ضباطاً من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي إيه»، قاموا بدور محوري في مواجهة الجماعات المسلحة التي يشتبه بأنها كانت وراء الهجوم على مقر القنصلية الأمريكية في مدينة بنغازي الليبية في 11 سبتمبر الماضي». من جانبها نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤولين استخباريين أمريكيين رفيعي المستوى قولهم «إن هذا الدور تمثل في نشر وإيفاد مجموعة إنقاذ من قاعدة سرية متواجدة في المدينة، وإرسال تعزيزات أمنية من العاصمة الليبية طرابلس، وتنظيم قافلة عسكرية مسلحة ليبية لحراسة الأمريكيين الذين نجوا من حادث بنغازي حتى وصولهم إلى طائرات تم تأجيرها على نحو سريع لنقلهم خارج البلاد».
روايات كثيرة وردت في صحف أخرى من مستوى «ورلد ستريت جورنال» التي أسهبت في بعض التفاصيل بشأن الحادثة ذاتها، والتي أضفت الكثير من البطولات على سلوك عناصر الاستخبارات المركزية، سواء في سرعة ردود فعلها أو في كفاءة أدائها، بما في ذلك مبادرتها لاتخاذ قرارات على ساحة الصراع دون انتظار الأوامر من واشنطن.
هناك عدة احتمالات تكمن وراء الإشاعة العلنية لمثل تلك الواقعة لعل أولها مخاطبة الرأي العام الأمريكي وتهيئته ذهنياً، وهو في أوج استعدادات توجهه نحو صناديق الاقتراع. فالديمقراطيون في أمسّ الحاجة اليوم إلى مراكمة مجموعة من النجاحات الخارجية مهما بدا البعض منها صغيراً، وتجميعها كي تساعدهم محصلتها على إعادة انتخاب الرئيس الحالي باراك أوباما الذي لاتزال إنجازاته متواضعة، خصوصاً على المستوى الخارجي، رغم جهوده المضنية لصقلها كي ترجح موازين القوى لصالحه في معركته الانتخابية المحتدمة مع الجمهوريين.
ينبغي ألا نستبعد أن يكون ما تناقلته الصحف الأمريكية لا يعدو كونه واحدة من بالونات اختبار أخرى أطلقتها واشنطن مؤخراً في المنطقة العربية، تهدف من ورائها دوائر الاستخبارات المركزية الأمريكية جس نبض الشارع العربي، وعلى وجه الخصوص الليبي منه، وقراءة أفكاره إزاء تدخل سافر من قبل عناصرها وتبني على ذلك خططها قصيرة المدى في ضوء النتائج المستخلصة من ردود الفعل تلك.
لكن هناك ما هو أهم من ذلك وأشد خطورة، فتسريب مثل تلك الأخبار وعن طريق قنوات إعلامية لها ثقلها في الفضاء السياسي الدولي من مستوى «نيويورك تايمز» و»ورلد ستريت جورنال»، لابد وأن تكون له أبعاد خارجية طويلة المدى تكمن وراءها بعض الأهداف الأمريكية الخالصة التي تهدف الولايات المتحدة إلى تحقيقها بعيداً عن المعركة الإعلامية والصراع الحزبي حول الانتخابات الرئاسية. فاليوم وعلى الصعيد الخارجي المحض وفي نطاق منطقة الشرق الأوسط، وفيما تكاد اليد الأمريكية أن تكون شبه مشلولة حيال أي إجراء جدي مؤثر إزاء دولة مثل إيران ليس بشأن الملف النووي الإيراني فحسب؛ وإنما حتى على صعيد السياسة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، يترافق ذلك مع خطوات تركية هجومية تحاول أن تميز نفسها عن أي مشروع شرق أوسطي ينفذ تحت مظلة أمريكية، خصوصاً في نطاق التعاطي مع الأزمة السورية. ويتزامن كل ذلك أيضاً مع تململ إسرائيلي أحبطه تمطي التلكؤ الأمريكي ومنعه من الإقدام على مغامرة تجاه «التعنت النووي الإيراني».
هذه الصورة الجيوسياسية في مجال الفضاء الشرق أوسطي الواسع، لكن الأوضاع تبدو أسوأ عندما نلج دائرته الأضيق وهي المنطقة العربية، التي لم تعد من زاوية المصالح الأمريكية ومشروعاتها في هذه المنطقة الحيوية بالنسبة لها أفضل حالاً من تلك الأُولى. فقد تجاوزت سرعة الأحداث التي جلبتها معها رياح التغيير التي رافقت ما يعرف باسم «الربيع العربي» قدرات الإدارة الأمريكية على التجاوب معها، وأفقدتها في منعطفات معينة منها إمكانية الحركة من أجل إعادة ترتيب أوراقها بما يضمن سيرها إيجابياً في طريق الحفاظ على تلك المصالح.
ولو بدأنا بالساحة المصرية فسنجد أن اليد الأمريكية مغلولة وغير قادرة على تفعيل معادلة التعايش السلمي المطلوب بين فلول النظام السابق التي لم تكف عن الدفاع عن مصالحها، وكتائب جماعة «الإخوان المسلمين»، التي تصارع من أجل تثبيت أقدامها وتدشين مشروعها السياسي الذي عملت من أجله منذ ما لا يقل عن نصف قرن من الزمان، ودفعت أثماناً باهظة له قبل أن تنجح في الوصول إلى السلطة، وهي الآن بصدد تثبيت أقدامها فوق أراضيه. لقد توهمت واشنطن أن في وسعها الوصول إلى معادلة ناجحة تسير آليات مثل ذلك التوافق الذي يبدو أنه أصبح حلماً يستحيل تحقيقه.
المشهد ذاته يتكرر في تونس؛ فليس هناك ما يبشر باستقرار الأوضاع فيها كي تتمكن الإدارة الأمريكية من البدء في نقل مشروعاتها من حيز التنظير والتخطيط إلى فضاء التنفيذ. فالساحة التونسية كما تبدو اليوم لاتزال حبلى بالتطورات التي تستدعي من تلك الإدارة التخلص من ذهنية راعي البقر المنتصر الذي يملي شروطه على من يضعهم في خانة الأشرار. وتواجه واشنطن، إضافة إلى التحدي الداخلي من القوى التونسية، ذلك التنافس القادم من حلفائها الأوروبيين الذين لا يقبلون بالفتات الذي لا تكف واشنطن من إلقائه أمامهم، وهم الذين مارسوا ضغوطهم الخفية على النظام السابق كي يقبل رئيسه بالاعتراف بالهزيمة ويوافق على التنحي عن الحكم ومغادرة البلاد. ثم عادوا بعد ذلك وبضغوط من واشنطن ووافقوا على إرسال قواتهم إلى ليبيا لحسم الصراع هناك.
تزداد الصورة تعقيداً عندما نحط الرحال في منطقة الجزيرة والخليج، حيث تفوح رائحة النفط الممزوجة بنكهات الصفقات المالية العسكرية منها والمدنية والتي تجاوزت قيمها مئات المليارات من الدولارات. وتتداخل الصراعات العقيدية مع تلك الإثنية المتصاعدة باحثة عن سبيل يضمن تعزيز النفوذ، والإمساك بالثروة. هنا تفقد الإدارة الأمريكية كثيراً من مرونتها، ويضيق مجال المناورات التي يمكن أن تستعين بها. وقد كشفت تطورات الأحداث التي عرفتها المنطقة ذلك التذبذب الناجم عن ارتباك تلك الإدارة وقفزها دونما أية مهارة على حبال سرك تلك الصراعات، مما أفقدها الكثير من توازنها وكاد أن يجهز على نسبة عالية من مراكز النفوذ التي تتمتع بها.
في خضم كل ذلك تبرز أمامنا حقيقة واحدة، وهي أن جميع الأطراف الضالعة في تلك الصراعات التي أشرنا لها تعرف ما تريد، باستثناء الطرف العربي، والذي يفترض فيه أن يكون العامل الأساس في إدارة تلك الصراعات أو إدارة دفة سفنها. ربما يعرف العرب ما لا يريدونه لأنفسهم؛ لكن السؤال الأهم الذي يلح عليهم هو متى يعرف العرب ما الذي يريدونه لأنفسهم وليس ما لا يريدونه لها؟