الرأي

حين ينقلب السحر على الساحر

نـــوافــــــــذ

قراءة سياسية هادئة ومتمعنة فيما رافق وما نتج عن الكشف عن فلم “براءة المسلمين” الهابط من أحداث توحي باحتمالين لا ثالث لهما، الأول مملوء بالشك القائم على فهم جوهر توافق المصالح الأمريكية المتضررة، بشكل أو بآخر من النتائج التي آلت لها أحداث “الربيع العربي”، وخارطة الصراعات التي ولدتها، والتي مست بشكل أو بآخر تلك المصالح، على ضرورة أن تبرز قضية على السطح لها علاقة بمسار الأحداث في هذه المنطقة الحيوية أيضاً لتلك المصالح المشتركة، وبوسعها تحويل اتجاه ذلك المسار فيها بما يخدمها.
أما الثاني فهو مسارعة ذات الطرفين؛ تل أبيب وواشنطن، وبأقصى سرعة ممكنة، إلى الاستفادة من الفلم ذاته، حتى وإن لم يكن لهما علم مسبق به، للوصول إلى هدفهما المنشود المشترك، الذي لا يختلف في جوهره عن الهدف الأول. من هنا، فبغض النظر عن المنطلقات، وكي لا نتهم بالأخذ بما يعرف في علم السياسة بـ “نظرية المؤامرة”، يمكننا الجزم بأن الولايات المتحدة، على وجه التحديد، كرست جهودها للاستفادة من ذلك الفلم الهابط بكل ما تعنيه كلمة “هبوط” من معنى، لتحقيق أهدافها الذاتية التالية:
1. كسر موجة العداء المتصاعدة، التي لم تتوقعها واشنطن، ضد الولايات المتحدة، رغم كل المحاولات التي لم تتوقف عنها الولايات المتحدة، حتى يومنا هذا المستميتة من أجل احتضان “الربيع العربي”، والسير في ركابه. غاب عن ذهن دوائر رسم السياسات في واشنطن، أن القوى التي سيأتي بها ذلك “الربيع” إلى الحكم، لن تكون، بغض النظر عن نوايا الاثنين معا، قادرة على أن تواصل العلاقات ذاتها التي تحكم الأنظمة المطاح بها مع الولايات المتحدة. فليس سراً أن أحد المسببات الرئيسة التي أطلقت شرارة تلك الأحداث، هو العداء المستحكم المكتوم، في نفوس المواطن العربي، للسياسة الأمريكية في المنطقة، وعلى وجه التحديد ذلك الشق غير العادل المنحاز كلية، وبشكل أعمى، للكيان الصهيوني، والذي دأبت تلك الأنظمة على غض طرفها عن ذلك الانحياز، إما خوفاً من واشنطن، أو حفاظاً على مصالح ضيقة لها معها.
2. الإمعان في تشظية القوى العربية، أكثر ما هي عليه اليوم، في صراعات دينية ومذهبية، ستقوم، كما كانت تسعى واشنطن، على تباين مواقف كل من تلك القوى، حول قضية جديدة طارئة، هي الموقف من ذلك الفلم الهابط. هنا كان “الحلم الأمريكي”، أن تشعل فتيل الخلافات بين الكنيسة والمسجد، كي تطفو على السطح، وتتطور كي تصل إلى الصدامات المسلحة. فينحرف مسار الصراع الرئيس القائم أساساً على العداء لواشنطن، ويحل مكانه مسار التناحرات الدينية الداخلية، التي تنهك الأطراف كافة، وتدفعها نحو الاستعانة بطرف خارجي، والذي لا يمكن أن يكون بحسب أوهام الكاوبوي الأمريكي، أحداً آخر غير الولايات المتحدة. وكي تكتمل الصورة، كان لا بد أن يشوب ردود الفعل، وفي اللحظات المبكرة منها، بعض التضحيات من الطرف الأمريكي، التي تجلت في الهجوم المسلح على مجموعة من السفارات الأمريكية، وقتل بعض من أفرادها، وهو ما جرى في سفارة الولايات المتحدة في طرابلس الغرب الليبية.
3. كسب بعض الوقت كي تتمكن واشنطن من إعادة ترتيب أوراقها المبعثرة في الساحة السورية، التي لاتزال أمريكا، حتى اليوم، غير قادرة على الوصول إلى استراتيجية مستقرة، حول النهايات التي تحاول أن تبلغها صراعات تلك الساحة، دون الإضرار بالمصالح الأمريكية، بعد أن لاح في الأفق، وخاصة بعد اندلاع أحداث الأردن المجاورة للأراضي السورية، شبح جماعة الإخوان المسلمين، واحتمال قطفهم لثمرة الصراع في سوريا. حينها تطوق إسرائيل بسياج إسلامي سني، من غير المستبعد أن يمد يده لمساعدة جماعاته المسلحة في غزة، عبر تنظيم حركة حماس. وهو أمر ترفضه واشنطن، ولا تستطيع تحمله تل أبيب، خاصة في الظروف الراهنة، وانتخابات الرئاسة الأمريكية على الأبواب، وتل أبيب ليست في أفضل حالاتها في موازين الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، بعد دخول تركيا وإيران كأطراف مباشرة فيها. الحديث هنا عن نهايات الصراع دون الحاجة للدخول في تحديد موقف من قواه المتصارعة.
ما غاب عن أذهان دهاقنة صنع القرار، ورسم الاستراتيجية، في الدوائر الأمريكية، هو أن مكانة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، بخلاف أية شخصية دينية أخرى، تحظى بالتقدير والاحترام في صفوف المؤسسات الدينية والأفراد التي يتبعونها النشطة في المنطقة العربية. ومن ثم فهي نقطة إجماع، لا عامل شقاق، لا يختلف عليها اثنان، بغض النظر عن الديانة التي ينتمون لها، أو المذهب الذي ينتسبون له. وأن هذه المكانة لها من القدسية والاحترام، تضع من يحاول أن يمسها في خانة العدو الرئيس، بغض النظر عن نواياه، فما بالك عندما تكون سيئة، كما رأيناه في ذلك الفلم الهابط، الذي لم نسمع أو نشاهد حتى يومنا هذا، ما يشير إلى براءة واشنطن منه، أو تنصلها عن محتواه.
من هنا، وبدلا أن يتحول ذلك الفلم الهابط، وكما أرادت له واشنطن أن يكون، إلى عامل إضعاف للعرب، من خلال إنهاك قواهم في صراعات داخلية، وتوجيه مسار حركة معارضتهم نحو أهداف وهمية، كان سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- في غيابه، تماماً كما كان أيام حياته، عامل توحيد لا تفرقة، وعنصر رص للصفوف لا ممزقاً لها. بل هو اليوم أكثر حضوراً وأهمية من الأيام الأولى للدعوة، حيث نجح الالتفاف حول محمد -عليه الصلاة والسلام- ضد كل من حاول الإساءة لشخصه الكريم، في التوحيد بين دول كانت متناحرة بسبب الانتماءات الطائفية البغيضة، وأمم كانت محايدة، جراء العلاقات التي تربطها مع واشنطن.
هنا وكما يقول المثل، انقلب السحر على الساحر الأمريكي، الذي وجد نفسه اليوم، في خنادق الدفاع، بدلاً من أحلامه التي توهمه بقدرته على الاستمرار في الاحتفاظ بمواقع الهجوم. لكن ما هو أهم من كل ذلك، أن يعي العرب، قبل الآخرين ممن هبوا لشجب ذلك الفلم الهابط، هذا التحول في معادلة الصراع، ولو في نطاقها الضيق، وفي وقتها القصير، فيستفيدون في هذه الحالة الطارئة، ويجيروها لتحقيق بعض المكاسب ذات البعد الاستراتيجي على المستوى القومي.
وليس هناك، في هذا الإطار، من قضية قومية عربية تسمو على القضية الفلسطينية، التي ربما أصبحت الفرصة مواتية اليوم، أكثر من أي وقت آخر، كي نبرزها على السطح، وبالمستوى الذي يليق بها وتستحقه منا، فتأخذ موقع الصدارة في سلم أولويات العمل السياسي العربي، في نطاقه القومي الواسع، لا إطاره الوطني الضيق، دون الاستخفاف بالواجبات الوطنية أو التقليل من أهميتها.