الرأي

مفارقات أمام أسئلة الحيرة

مفارقات أمام أسئلة الحيرة

عاد إلى السطح مجدداً موضوع الانفتاح والانغلاق والهوية والدفاع عن الهوية ليرتفع عالياً في ظل التدخلات الأجنبية وما يحاك ضد العرب والمسلمين من مؤامرات علنية وغير علنية، وفي ظل عدم قدرة القوى المحافظة على الاستجابة لتحديات العصر والحداثة والإبقاء على خطاب عتيق غير منسجم مع واقع الحال على الأرض، بما يؤدي مجدداً إلى حدوث وافتعال نوع من المواجهات السياسية - الاجتماعية الإعلامية بين القوى المحافظة والقوى التي تحسب نفسها ممثلة للحداثة والتقدم، وقد تمت ترجمة ذلك من خلال مواجهات دامية في بعض الأحيان رأينا جانباً منها في كل من تونس ومصر، وبعض مؤشراتها البسيطة في البحرين وتأثير كل ذلك على الاقتصاد والمجتمع، بما أثار مجدداً سلسلة من المناقشات بدت وكأنها عودة إلى الوراء لمناقشة قضايا الهوية والحداثة والغرب والشرق والتقدم والتخلف والعولمة، وكأننا لانزال في نهاية القرن التاسع عشر أو في النصف الأول من القرن العشرين.
هذا النقاش كانت تحف به إشكالية تتعلق بطبيعة الموضوع المطروح في صلب القيم الدينية، حيث يبدو الدفاع عن هذا الموضوع أو ذاك أو الاقتراب منه محرجاً للضمير الديني والأخلاقي، ويجعل صاحبه في موقع لا يحسد عليه، ولكن الأمر لا يرتبط بهذا الموضوع تحديداً كمفردة واحدة من مفردات نقاش واسع، وإنما يرتبط بمنظومة كاملة من القيم التي ترتبط بنمط حياة واقتصاد واجتماع وثقافة يجني المجتمع ثماره، ولذلك فإن مناقشة مثل هذه الموضوعات بعيداً عن التعقيدات الاقتصادية والسياسية والحقوقية والمجتمعية أو تجاهلها أو عزلها لن يكون حديثاً واضحاً وشفافاً وصريحاً ومفيداً.. فهنالك من ناحية أصحاب نظرية الانفتاح -وهم خليط من مشارب متناقضة- لا يهتمون بهوية المجتمع بقدر اهتمامهم بمصالح أنانية ولاشك أنك تتذكر الموجات الفكرية المتحررة التي عمّت العالم في القرن الماضي ودعت إلى التمرد على كل القيم السائدة وعملت على اضمحلال القيم الأخلاقية ولكنها انتهت إلى الفشل في النهاية وصولاً إلى نظرية هنتنغتون التي يؤكد فيها أن قيم الحداثة الغربية ليست كونية، وإنما هي مجرد خصوصية غربية، وهي لا تنطبق إلا على بلدان أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وعليه لا معنى للجري وراء هذه القيم أو الاعتداد بها بالنسبة لمن ينتمي للغرب.. وهذه نظرية أقرب إلى الخديعة أو الوقيعة لأن ما يُسمى بالقيم الغربية اليوم هو في مجمله خلاصة القيم الإنسانية في مرحلتها الغربية ضمن حركة التاريخ التي يراد لها أن تعود إلى الوراء.
وهنالك في العالم الإسلامي من يلتقي مع هنتنغتون بطريقة أخرى ممن يرغبون في جرنا إلى الوراء فإذا كان العالم قد حسم العديد من القضايا والمسائل من عدة قرون أو عقود، فإننا كلما اعتقدنا أننا حسمنا موضوعاً وتحركنا إلى الأمام إلا وأعيد البحث فيه من جديد وكأننا في نهاية القرن التاسع عشر، ومن ذلك موضوعات مثل الانفتاح والتسامح وحرية المرأة وحقوقها والاختلاط، حتى إن أحد رجال الدين قد أفتى مؤخراً بهدم الكعبة المشرفة لأنها تتيح الاختلاط بين الرجال والنساء، مع أن هذه الممارسة كانت موجودة منذ بدء الإسلام، وهكذا يبدو أننا مجتمع غير قادر على الحسم والتقدم، ويعيش حالة مفتعلة ومرضية من إشكالية الأصالة والمعاصرة.. ولذلك يبدو في كثير من الأحيان أننا ندور في حلقة مفرغة، أو أننا نتجه إلى مزيد من المحافظة والانغلاق في الوقت الذي يتجه فيه العالم من حولنا إلى المزيد من الانفتاح.
ولا نعتقد بأن الغرب قد تراجع أو يمكن أن يتراجع عن قيم الانفتاح والحداثة والتقدم، رغم التقلبات والأزمات والتحولات الحزبية والسياسية والاقتصادية، لأن الموضوع عندهم قد تحول إلى نظام حياة، وليس إلى خيار بين الانفتاح والانغلاق، فهذا ليس مطروحاً أصلاً، والاعتقاد بغير ذلك مغالطة لأنفسنا، فعندما نشر فوكوياما نظريته عن نهاية التاريخ -والتي تراجع عن بعض مضامينها مؤخراً- شدد على أن القيم تصنعها الدولة، وأن الدولة موجودة وراسخة في أوروبا منذ العصور الوسطى ومتواليات العصر الحديث، في حين أنها ككيان في بلدان العالم الثالث موجودة بشكل ضعيف أو مهزوز أو غير موجودة أصلاً مثلما هو الشأن في بعض بلدان أفريقيا، فالدولة موجودة بالاسم فقط، ولهذا السبب، فإن أغلب مجتمعات هذه البلدان ضائعة، وأوضاعها متقلبة حتى في مجال القيم، ولذلك يحلم سكان هذه البلدان بالهجرة نحو الغرب للاحتماء بها والاستفادة من نمط الحياة فيها.
كما إن التعلل بالقيم والخصوصيات والهويات لتبرير الجمود والانغلاق لم يعد مقبولاً، فالقيم كائن حي ينمو ويتفاعل ويتطور، وتبقى نسبياً، ولكنها ينبغي أن تظل إنسانية قبل كل شيء، إلا أن التقدم الاجتماعي يطّور منظومة القيم نحو الأفضل بالضرورة.