الرأي

العلاقة اللبنانية - الفلسطينية.. عـــود علــــى بــــدء

العلاقة اللبنانية - الفلسطينية.. عـــود علــــى بــــدء

يوم أقّر النواب اللبنانيون اتفاق الطائف في 23/10/1989، لاحظنا أن أحد ثغرات ذاك الاتفاق هو إهماله للعلاقة اللبنانية - الفلسطينية اعتقاداً من واضعيه أن تفاهماً بين لبنان وسوريا نظّمه ذاك الاتفاق، وأن تفاهماً بين اللبنانيين أنفسهم على إعادة توزيع الصلاحيات وشروط المحاصصة، مع الرعاية العربية الدولية لهذين التفاهمين، أمور كافية لخلاص لبنان من أزمة وطنية كبرى تتكرر كل حين. وأنه يكفي الإشارة إلى رفض التوطين، دون تحديد سبل مقاومته، لكي تتم معالجة قضية متفجرة كانت في صلب الأسباب التي أدت إلى الحرب اللبنانية التي جاء اتفاق الطائف ليوقفها.
مرّت السنوات فلم يكتب للتفاهم اللبناني – السوري أن يستمر بشروط الطائف وبنوده، وتعّثر التفاهم اللبناني – اللبناني وتشعبت مشاكله وقضاياه وعجز عن تناول بنود رئيسة من الميثاق الجديد، أما العلاقة اللبنانية – الفلسطينية فقد تركت للمعالجة الأمنية، مع الاعتقاد إن الدعم السوري للسلطة اللبنانية كاف يومها لتذليل أي عقبات، فرأينا في العام الأول بعد الطائف محاولة ضرب الفلسطينيين حين ظن بعض أهل السلطة أنهم قادرون على سحب السلاح الفلسطيني بالقوة، فكانت معارك شهيرة في شرق صيدا ما لبث أن تسمّرت على أبواب المخيمات في عاصمة الجنوب في صيف عام 1991.
ومما زاد الطين بلة أن بعض أهل الحكم في مرحلة ما بعد الطائف، وأمام اتهامات وانتقادات لهم بمولاة النظام السوري، كانت تتردد بقوة في البيئات التي ينتمون إليها، لم يجدوا أفضل من التحريض ضد الفلسطينيين كطريق لتأكيد “لبنانيتهم”، حتى لا نقول لتأكيد ولائهم لبيئة لبنانية متحفظة أساساً على الوجود الفلسطيني والعربي بأسره، قبل السلاح، قبل اتفاق القاهرة وبعده، إلى درجة أنه انعقدت في وقت لاحق مساومة غير موفقة جرت بين إلغاء اتفاق 17 أيار مع الكيان الصهيوني وإلغاء اتفاق القاهرة مع الفلسطينيين في بندين متلازمين في قانون واحد صادر عن مجلس النواب في أواخر أيار،1987 وهو ما اعتبر تمهيداً لاتفاق الطائف بعد أكثر من سنتين.
كان البديل عن اتفاق 17 أيار مع الصهاينة هو اعتماد المقاومة التي حررّت الأرض دون قيد أو شرط، بل بشكل خاص دون التنازلات المذّلة التي تضمنها اتفاق 17 أيار، الذي رعاه السيد شولتز وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك والذي لم يستطع حمايته رغم قوات المارينز التي أنزلها في العاصمة، فكانت حرب الجبل وانتفاضة بيروت والضاحية في 6/1984، وسبقتها صلاة العيد في الملعب البلدي التي أمّها المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، كما سبقها تشكيل جبهة الخلاص الوطني وعلى رأسها الرئيسان الراحلان سليمان فرنجية والشهيد رشيد كرامي ومعهما رئيس حركة أمل نبيه بري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والعديد من القوى الوطنية والقومية والإسلامية مع دور مميّز في بيروت لرئيس اتحاد العلماء المسلمين آنذاك الشيخ الراحل عبد الحفيظ قاسم ودون إغفال الدور التاريخي في انطلاق المقاومة (مقاومة الاتفاق المشؤوم والاحتلال العنصري)، لسماحة الإمام الراحل السيد محمد حسين فضل الله الذي تّمر ذكرى رحيله بعد أيام.
أما البديل من اتفاق القاهرة فكان سلسلة من المغامرات والتوترات والحروب المؤلمة التي انطلقت جميعها من فكرة بسيطة هي وحدانية المعالجة الأمنية للوجود الفلسطيني في لبنان.
وبلغ الاستهتار بالوجود الفلسطيني ذروته مع ما يسمى قانون تملك الفلسطينيين في لبنان عام 2001 الذي حرمهم من حقوق يمنحها القانون لكل الأجانب حتى ولو كان بينهم إسرائيليون يحملون جنسيات أجنبية، وعلى صخرة هذا الاستهتار جرى الاستمرار في تجاهل الحقوق المدنية والاجتماعية والإنسانية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، رغم أن معظم الكتل النيابية والوزارية الكبرى تعلن في كل المناسبات دعمها لهذه الحقوق دون أي ترجمة ولو بسيطة لها ما عدا استثناء بسيط يذكر لوزير العمل السابق الدكتور طراد حمادة الذي أعطى حق العمل ببعض المهن للفلسطينيين، ودون وقفة لوزير الداخلية الأسبق بشارة مرهج الذي منع أي ممارسة قمعية بحق الفلسطينيين في المخيمات، وألغى إجراء كان معتمداً لشطب قيود فلسطينيين مسجلين في سجلات اللاجئين في لبنان إذا ثبت حصولهم على جنسية أخرى، وهي القيود الوحيدة التي تثبت فلسطينية هؤلاء وحقهم في العودة إلى بلادهم.
وهكذا غابت أي مرجعية لبنانية لمعالجة العلاقة مع الفلسطينيين في لبنان، إلاّ إذا استثنينا تشكيل لجنة حوار برئاسة السفير السابق خليل مكاوي عام 1996 والتي بقيت نتائج عملها متواضعة جداً ومقّيدة بألف اعتبار واعتبار رغم نوايا رئيسها السليمة.
وبالمقابل انعكست الانقسامات السياسية بين القيادات الفلسطينية، لاسيما بعد اتفاق أوسلو عام 1993، على عدم تشكيل مرجعية فلسطينية موحدة تحاورها السلطة اللبنانية وتعالج معها المشكلات القديمة والمستجدة.
ورافق غياب هذه المرجعية الفلسطينية ضعف أي اهتمام قيادي فلسطيني جدّي بأوضاع المخيمات وسكانها، وانحصر الاهتمام القيادي بأعضاء التنظيمات الذين أخذوا بالتناقص في العدد، والتراجع في التأثير، وانشغلوا بالتناقضات المرهقة ليس بين التنظيمات فقط، وإنما داخل بعضها بحيث بات هُّم كل فريق داخل التنظيم الواحد إرباك الفريق الآخر بدلاً من الاهتمام بحاجات الشعب المتزايدة، وهكذا نشأ فراغ عمدت إلى الاستفادة منه قوى متعددة، بعضها متشدد وبعضها مرتبط بأجندات غير فلسطينية.
جاءت التجربة المريرة والقاسية في مخيم نهر البارد الذي دفع سكانه ضريبة الأحداث المؤلمة في أيار 2007 مرتين، مرّة حين اختطف المخيم بغير إرادة أهله من قبل مجموعة ارتكبت اعتداء آثماً وغير مبرر ضد الجيش اللبناني، ومرة أخرى حين جرى التعامل مع أهل المخيم كمسؤولين عما ارتكبه من اختطف مخيمهم ضد إرادتهم.. فبقيت المعالجة الأمنية مرّة أخرى هي الطريق الوحيد المعتمد، وتحول إعمار نهر البارد إلى عملية بطيئة ومعقدة وظالمة ومحاصرة بالحسابات الضيقة على أنواعها.
في ظل هذا الواقع الذي أضيفت له تعقيدات محلية وفلسطينية وعربية ودولية، تعمّق لدى الفلسطينيين إحساس بحرمان وقهر وحصار أمني وضيق اقتصادي مترافق مع مزايدات سياسية لبنانية تتحدث عن مخاطر التوطين دون أن تفسح في المجال للفلسطيني أن يناضل من أجل العودة، لا بل إن بعض من كان يرفع شعار التوطين علناً كان يعمل له سراً بذريعة أن تحقيق التوطين يبرر التقسيم (الذي يسعى إليه دعاة الفدرالية في لبنان) وكلاهما يرفضهما الدستور اللبناني بنصّ قاطعة.
في ظل هذا الشعور، لم ينتبه العديد من الفلسطينيين إلى أن الحرمان والقهر والضيق، وحتى الحصار الأمني، ليس واقعاً خاصاً بهم، بل يشاركهم فيه العديد من اللبنانيين الذين يعيشون بالقرب منهم، ولعل ما شهده ويشهده لبنان من أزمات كهرباء وماء وصحة وتعليم وضمان صحي واجتماعي وانخفاض أجور وبطالة وهجرة لا يقّل عما يعاني منه الفلسطينيون.
أما بعض اللبنانيين المغرمين بنكء جراح الماضي مع الفلسطينيين أو السوريين أو حتى مع مواطنيهم اللبنانيين، فلم ينتبهوا بالمقابل إلى أن الاضطراب الأمني في بلدهم ليس مرّده الفلسطينيون وحدهم، بل إن الاضطرابات المرتبطة بهم هي أقل بكثير من الاضطرابات المتواصلة التي تسّببها إثارة مستديمة لغرائز وعصبيات طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية تفتك بوحدة لبنان واستقراره وأمنه كما لم تفتك من قبل.
على قاعدة هذا الحذر المتبادل، والذي تغذيه جهات ومخططات ومصالح، وتحرّض عليه قيادات ووسائل إعلام معينة، وفي ظل ما يعصف بلبنان والمنطقة من زلازل وأعاصير، تقّدم الاضطراب في المشهد الفلسطيني إلى الواجهة، فبتنا أمام مشاعر يملؤها الاحتقان والغضب عند أجيال شابة من الفلسطينيين لا تفهم سبب التعامل معها بقسوة وبشكوك دائمة، كما إن سياسات حكومية وغير حكومية لا تجد غير المعالجة الأمنية سبيلاً لمواجهة الاحتقان الفلسطيني.
في ظل هذا الواقع المتردي، والذي لا تتسع هذه العجالة للإحاطة بكل جوانبه وعناصره وأسبابه، لا بّد من التأكيد على حقيقتين متلازمتين يمكن لهما أن يخرجا العلاقة اللبنانية – الفلسطينية من واقعها المتردي.
الحقيقة الأولى أن يدرك الفلسطينيون جميعاً، وخصوصاً أن معظم قياداتهم تدرك ذلك، بأن استقرار لبنان وأمنه وسيادته ووحدته وحكم القانون معه هو الضمان الأكبر لحياتهم واستقرارهم وحل مشاكلهم، وأن سلوك أي درب آخر لن يجلب إلاّ الخراب لهم وللبنان، ولن يزيد إلاّ الأحقاد والبغضاء بن شعب يعيش أعدل قضية في هذا العصر، وهو الشعب الفلسطيني، وشعب قدّم أغلى ما عنده انتصاراً لهذه القضية وهو الشعب اللبناني.
الحقيقة الثانية أن يدرك اللبنانيون جميعاً، والكثير من قياداتهم، أن المعالجة الأمنية وحدها لا تستقيم في التعاطي مع الشأن الفلسطيني، وأن لا بد من احترام حقوق إنسانية بسيطة لهؤلاء المقيمين ضيوفاً في لبنان ولا بد من العمل سوياً، لبنانيين وفلسطينيين، من أجل تأمين حق العودة للاجئين، وهو عمل له عدة مستويات كما علينا أن ندرك أن المقاومة في لبنان هي واحدة من أهم عوامل الضغط لتحقيق هذه العودة التي يتطلع إليها كل فلسطيني ليس في لبنان فحسب، وإنما في جهات الأرض الأربع بمن فيهم من يحمل جنسيات أغنى الدول وأرقاها، ومن يملك ثروات طائلة، إذ لا شيء أغلى عند الفلسطيني، كما اللبناني، من أن يكون له وطن.
في ضوء هاتين الحقيقتين لا بد من مرجعية لبنانية خاصة بالشأن الفلسطيني، بكل مستوياته، وأخرى فلسطينية موحّدة لا تحصر مهمتها بالعلاقة مع السلطة اللبنانية وحدها، بل تعكف على معالجة كل جوانب المأساة الفلسطينية وتحمّل قيادات السلطة الفلسطينية، في الضفة أو غزة، مسؤولياتها التي يعيشونها، خصوصاً أن فلسطينيي لبنان، كغيرهم من فلسطينيي الشتات هم حالة نضالية تستطيع أن تحقق الكثير ممن لا تستطيع قيادات الداخل المكّبلة بألف قيد وقيد أن تحققه لاسيما عربياً وإسلامياً وعالمياً