الرأي

لقاء الاعتراف بالرحيل

نـــوافــــذ

كثيرة هي القضايا التي أثارها اللقاء المتلفز الذي أجرته قناة تلفزيون “الدنيا” المحلية مع الرئيس السوري بشار الأسد. ودون الدخول في تفاصيل ما جاء في ذلك الحديث، رغم أهميته لمن يريد أن يعرف واقع الحال في سوريا، ويستشرف المستقبل الذي ينتطرها، لكني سأتوقف عند ثلاث قضايا، أرى مفصليتها من حيث قدرة هذا النظام على الاستمرار، والخروج منتصراً على مناهضيه، أم أنه، أي النظام، يجاهد، من أجل الخروج من أزمة يدرك هو قبل غيره أن محاولاته تقترب من تحقيق المستحيل. لذا ففي تلك النقاط الثلاث اعترافات واضحة، وإن كانت غائبة عن ذهن الرئيس الأسد، بأن الوقت لم يعد يعمل في صالحه، وأن العد العكسي قد بدأ. نقول ذلك بكل موضوعية، ودون انحياز لصالح أي من القوى، سواء تلك الممسكة بزمام السلطة، أو التي تعمل من أجل الوصول لها. القصد من ذلك التشخيص والتحليل، وليس تحديد المواقف لصالح طرف ضد آخر.
أول النقاط التي وردت في خطاب الرئيس الأسد، والتي تكشف حقيقة أنه يرفض الاعتراف بأي شكل من أشكال الهزيمة، متوهماً، أو يحاول إيهام المواطن السوري أن الوقت يسير لصالحه، كانت بشأن دور الجيش الذي ما يزال يعتبره الأسد يؤدي مهامه الوطنية وبأنه يحقق إنجازات ملموسة على هذا الطريق، فهو أي، القوات المسلحة، كما يقول عنها الأسد “تحقق نتائج كبيرة في هذا المجال.. الكل يريد الحسم خلال ساعات أو أيام أو أسابيع وهذا الكلام غير منطقي لأننا نخوض معركة إقليمية وعالمية ولابد من توفر الوقت لحسمها. ولكن يمكنني الاختصار بالقول إننا نتقدم للأمام وإن الوضع أفضل”. يغالط الرئيس الأسد نفسه، عندما يتوهم أن الوضع اليوم أفضل مما كان عليه بالأمس، فموازين القوى على أرض الواقع تشير أنها إن لم تكن لصالح من يقف ضد نظام الأسد، بشكل واضح اليوم، فهي بكل تأكيد لاتنبئ باتجاهها لصالحه في المستقبل، إن لم يكن المنظور القريب في أسوأ الأحوال. فقبل اندلاع المعارك لم تكن سوريا منقسمة عسكرياً بين جبهتين متقاتلتين، تستخدمان أسلحة متطورة، شملت حتى سلاح الطيران والمدرعات، على النحو الذي هي عليه اليوم. إن كان المقصود بانتصار محدود هنا، وتقدم بطيء هناك، فأي منهما لا يخفي الصورة الكبيرة أن النظام، لم يعد كما يفترض فيه أن يكون باسطاً سلطته على كل الأراضي السورية.
النقطة الثانية وردت في إجابته على موضوع الانشقاقات، قال الرئيس السوري إن “الشخص الوطني والجيد لا يهرب، لا يفر خارج الوطن، عملياً هذه العملية هي عملية إيجابية، هي عملية تنظيف ذاتية للدولة أولاً والوطن بشكل عام”، واصفاً من ينشق “إما أن يكون إنساناً قدم له المال وخرج فهو فاسد ومرتشٍ.. أو شخصاً جباناً هدد من قبل إرهابيين أو جهات أخرى أو كما يقول لم يكن لديه أمل بمستقبل مشرق فخاف من هذا المستقبل وهرب إلى الخارج” معتبراً ذلك “عملية فرار أكثر من أي شيء آخر”.
كان يمكن أن يكون كلام الرئيس الأسد منطقياً وقابلاً للتصديق، فيما لو أن العملية كانت محصورة فقط في عدد محصور من الأفراد، وفي مؤسسات الدولة الدنيا، أما عندما يحدث ذلك على نطاق واسع، وبشكل متكرر ومتزايد في آن، ويشمل أيضاً الإدارات العليا في الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية، التي يفترض أن تكون الأكثر ولاء، والأشد تماسكاً، فالأمر لم يعد مجرد فرار، ولا يمكن أن تصنف الظاهرة على أنها “تنظيف ذاتي”. فلكل من العمليتين مواصفات مختلفة، وآليات أخرى، ليست شبيهة بالتي عرفتها الساحة السورية، والتي تحدث عنها الرئيس الأسد.
الاستنتاج الحقيقي، أن هؤلاء “المنشقين”، أو حتى “الفارين”، إن أردنا التقيد بتعبيرات الرئيس الأسد، تحولوا إلى ظاهرة اقتنع أصحابها أن الزمن لا يسير لصالحهم، وأنه من الأفضل لهم ولمستقبلهم، دون الحاجة لتحليل النوايا، أو معرفة الدوافع، مغادرة المركب، قبل أن يضطر قبطانها إلى إغراقها، هذا إن لم تغرق هي تحت ضربات من لم يعودوا يرغبون في رؤيتها وهي تمخر عباب البحر. إذاً فأصحاب النظام، ومن كانوا يحيطون بالرئيس الأسد، باتوا مقتنعين أنه آن الأوان للاعتراف بعدم قدرة النظام على الاستمرار، وأن موجة التغيير قادمة، وليس هناك ما هو أفضل من السير في ركابها، بدلاً من مواجهتها.
النقطة الثالثة، وهنا بيت القصيد، كان رده حول سؤال إلى أين تتجه سوريا؟ فكان جوابه “نأخذ سوريا إلى حيث نريد أن نأخذها كشعب سوري.. وليس إلى أي مكان آخر.. العامل الخارجي يؤثر.. يستطيع أن يسرع عملية ما أو يبطئها.. يستطيع أن ينحرف بها باتجاه معين.. ولكن نستطيع نحن أن نعيده.. كل ما يحصل في سوريا لم يكن من الممكن أن يحصل لو لم يكن لدينا فئات معينة.. مجموعات محدودة ولكنها مؤثرة سارت مع المخطط الأجنبي سياسياً أو إجرامياً”. في اختصار شديد، لا يعرف الرئيس الأسد إلى أين، هو شخصياً يريد أن يأخذ سوريا. وعوضاً عن تحديد ذلك بشكل دقيق، يستعين بكلمات عامة هلامية مثل “نأخذها كشعب سوري ..”. في ذلك اعتراف صريح وواضح، أن المستقبل غامض، وليس في يد الرئيس الأسد، كما كان يحاول أن يقنع المشاهد طيلة فترة اللقاء.
يذكرنا ما جاء في تلك المقابلة، وليس بشكل متطابق بطبيعة الحال، ما سمعناه وشاهدناه في القنوات الإعلامية من رؤساء عرب آخرون مثل معمر القذافي في ليبيا، وحسني مبارك في مصر، وعلي عبدالله صالح في اليمن. وجميعهم، وبسيناريوهات مختلفة انتهوا، إلى ما يتحاشاه الرئيس الأسد في تلك المقابلة، أو يرفض الاعتراف به. لكن التاريخ لا يرحم من يفشل في قراءة قوانينه، وأحداثه لا تتعاطف مع من لا يستطيع فهم حركتها على نحو صحيح، ويكون قادراً على التعامل معها، ليس بالتحايل عليها، وإنما بالأهمية المرنة الناضجة، القابلة، طوعاً، بتقديم بعض التنازلات، التي قد تبدو في نظر البعض كبيرة وموجعة، لكنها تبقى ضرورية وحاسمة، لمن يريد أن يستمر في السلطة، ويتمتع بالكثير من امتيازاتها، إذ لا يمكن ورياح التغيير تهب على المنطقة، أن ينجح في مقاومتها، من يصر على الوقوف منتصباً في وجهها. وحدها الأغصان المرنة التي تميل مع الرياح، ثم تعود كي تستعيد شكلها، هي القادرة على تفادي الانكسار، بخلاف الأشجار الأخرى التي قد تبدو باسقة، لكنها تتهاوى أمام ضربات الرياح التي ترفض الانحناء أمام طريقها.
خطاب الرئيس الأسد فيه الكثير من إشارات الرحيل، لكنها لا تنبع من قناعة من أن الساعة أزفت، بقدر ما تصدر عن ذهنية تصر على البقاء، وتتمسك بالسلطة دون أية رغبة في تقديم تنازلات تتناسب وطبيعة المرحلة، بغض النظر عن القوى التي تقف مطالبة بها. فعدالة المطالب، واقتراب أوانها مسألة موضوعية ليست، بالضرورة، متطابقة مع القوى التي ترفعها، أو تستغل الفرصة لنيل المكاسب من وراء المطالبة بها.
خطاب الرئيس الأسد يعلن عن رحيله، ربما بشكل غير واعٍ، لكنه واضح للغير، وإن لم يكن واضحاً للرئيس ذاته. ساعة الصفر يحددها نضج الظروف الإقليمية أكثر من أي عامل آخر.