الرأي

الفرص التاريخية

نـــوافــــذ

الفرص التاريخية؛ هي تلك اللحظة التي تفرق بين مرحلتين أو فترتين في التاريخ وتفصل بينهما بشكل واضح غير قابل للتأويل. وهي ليست بالضرورة محصورة في القضايا السياسية، بل تمتد كي تشمل جميع مرافق الحياة من علمية واجتماعية، بل وحتى صناعية وتجارية. الناجح، فرداً كان ذلك الناجح أم مؤسسة أم أمة بكاملها، هو من يستطيع أن يتحين تلك الفرص ويتمكن من تحديد زمنها وآفاقها واتجاهاتها بشكل دقيق، فيكون قادراً على تحقيق الاستفادة القصوى منها لصالحه، وربما لصالح الفئات البشرية التي تنسجم مصالحها والقوانين المصاحبة لتلك الفرص.
في عالم السياسة على وجه التحديد؛ لا شك أن مثل هذه الفرص بحاجة إلى قيادة حكيمة متمرسة قادرة على التقاط لحظة تمظهرها ومن ثم الاستفادة منها. والتاريخ مليء بمثل هذه الفرص التاريخية التي يتحدث مدونوه عن تلك اللحظة الفاصلة بين غياب مجتمع ما وبروز آخر بديل له، فعلى مستوى المجتمع الدولي على سبيل المثال كان ذلك القرار البريطاني الشهير بالانسحاب من شرقي السويس في منتصف العقد السادس من القرن الماضي، والذي عبر في جوهره حينها عن رؤية بريطانيا السليمة لتغير موازين القوى على المستوى الدولي، بما لا يبيح لها الاستمرار في نشر أساطيلها وممارسة نفوذها على النحو الذي كانت الأوضاع عليه قبل الحرب الكونية الثانية. كان على بريطانيا إن هي أرادت أن تستمر في مواصلة دورها كإحدى الدول العظمى أن تقدم بعض التنازلات للقوتين الأعظم اللتين ولدتهما نتائج الحرب العالمية الثانية، وهما روسيا والولايات المتحدة. أباحت تلك الاستراتيجة لبريطانيا التي لم تعد العظمى الوحيدة بالمقاييس الدولية حينها أن تلتقط أنفاسها التي أنهكتها تلك الحرب، كي تعيد تنظيم قواها السياسية قبل العسكرية لتحافظ لبريطانيا على كرسي دولة مهمة في المحافل الدولية.
في هذا العالم أيضا، أكثر ما تحتاجه مثل تلك الفرص أن تمتلك تلك القيادة التاريخية المحنكة والواثقة من نفسها الشجاعة الكافية التي تستطيع فيها، ليس تحديد تلك اللحظة التاريخية بشكل دقيق فحسب، إنما تهيئة نفسها كي تتمكن من تقدم الصفوف والتقاط تلك الفرصة وتجييرها لصالح برنامجها السياسي، الذي ينبغي حينها أن يكون متناسقا مع القوانين الجديدة التي ستفرضها تلك الفرصة المعينة لحظة بروزها، لا مضادة لتلك القوانين وسائرة في اتجاه معاكس لها.
الأخطر من تحين الفرص وتشخيصها وتحديد زمنها والتهيؤ لها، هو الفشل في رؤيتها والعجز عن التفاعل الإيجابي معها، وبالتالي الاضطرار إلى مجرد النظر إليها وهي تمر مرور السحاب، ترافقها تأوهات الخاسرين وتحسراتهم، والتي تطغي عليها حينها زغردة المستفيدين ممن التقطوا تلك الفرصة التي كانوا يتحينونها.
على امتداد العشرين شهراً الماضية، وبفضل تفجر الأوضاع في أكثر من دولة، طافت في سماء المنطقة العربية كثير من تلك الفرص التاريخية التي استفاد من أرباحها من اقتنصها، وتكبد خسائرها الفادحة من فشل في تحديدها، ففاتته قبل أن يلتفت نحوها. نورد على سبيل المثال لا الحصر ملك المغرب محمد السادس، الذي أدرك رغم حداثة تجربته مقارنة بكهول آخرين من أمثال الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، وفي مرحلة مبكرة أنه أمام تغيير قادم لا محال، وأنه من الناحية الموضوعية لن يستطيع صده ما لم يقدم على بعض التنازلات التي تحد من بعض الامتيازات التي كان يتمتع بها القصر لصالح الشارع المغربي المطالب ببعض الإصلاحات.
أدرك ملك المغرب حينها وفي لحظة تاريخية حرجة أنه أمام خيارات صعبة، وليس أمامه إن كان يريد الاستفادة من الفرصة السانحة أمامه إلا خيار تاريخي واحد هو تقديم بعض التنازلات كي يحتفظ بالسلطة، فأقدم عليها بجرأة وثقة، مدته كلتاهما بالقدرة على امتصاص نقمة المعارضة وحقن نظامه بمضادات تمده بالقدرة على الاستمرار، دون اضطرابات مرهقة لفترة زمنية أخرى عليه إن هو أراد خوض التجربة مرة أخرى أن يتحين فرصها ويتهيأ لها كي يستفيد منها.
مقابل ذلك، نجد النموذج القذافي الذي ركب رأسه ورفض أن يقرأ الفرصة التاريخية المتاحة أمامه التي تدعوه للتغيير، وتحثه على إجراء بعض الإصلاحات، فكانت نهايته قتيلا في إحدى مواسير الإنشاءات دون ان ينعم حتى بمحاكمة تبيح له الدفاع عن سياسته التي قادته إلى تلك النهاية المفجعة والمخزية في آن. مقابل ذلك لم تنجح القوى المناوئة لحكم القذافي أن ترى تلك اللحظة بشكل صحيح، فلم تنظم صفوفها وتحدد سلوكها بما يتلاءم ومتطلبات تلك اللحظة. لقد فشل القذافي أكثر من سواه من بعض الحكام العرب من أمثال رئيس تونس زين العابدين بن علي، في تحديد تلك الفرصة والوصول إلى منتصف الطريق في حواره مع من عارضوه، فأدخل البلاد في صدامات عسكرية ولدت حالات مرضية، ما تزال ليبيا التي لم تعرف الاستقرار بعد تنزف بسببها، وربما تتطور الأمور فيها إلى حروب قبلية واقتتال مناطقي يجهض مسيرة من عارض القذافي قبل رؤية جنينه.
في المثالين السابقين ينبغي أيضا التوقف عند رؤية الطرف المعارض لذينيك النظامين، ففي الحالة المغربية نجحت المعارضة المغربية في رؤية تلك الفرصة السانحة أمامها فتمكنت من الاستفادة منها، فوضعت مطالب آنية قابلة للتحقيق وفق الظروف القائمة، فتحاشت هي الأخرى استفزاز القصر الملكي وحرصت أن لا تشكل مطالبها تهديداً يثير الرعب في نفوس الأسرة المغربية الحاكمة، ويوحي لها بأنها على أبواب فقدان السلطة. فساعدت هذه الأخيرة على اللجوء إلى خيار تقديم التنازلات. نضج الطرفين، السلطة والمعارضة على حد سواء، ورؤيتهما المشتركة الصحيحة كل من زاويته لحلول تلك الفرصة التاريخية، وتحديدهما الدقيق لحدودها، أنجحهما في التوصل إلى اتفاق مشترك وفر على المغرب الدخول في نفق صدامات عنيفة لا يعلم سوى الله نهاياتها. وتنعم المغرب اليوم بخلاف العديد من شقيقاتها العربيات بنتائج التحديد الناجح لتلك الفرصة.
مقابل ذلك، وفي الحالة الليبية، لا شك أن تلك المعارضة قد نجحت في إقصاء القذافي لكنها لم تحسن التحكم في الخلافات الثانوية القائمة بينها، والتي تفجرت لاحقاً في أشكال صدامات مسلحة مختلفة ما تزال تعاني منها ليبيا. كانت القراءة لحلول الفرصة صحيحة لكنها ناقصة.‏
بالطبع منطق التاريخ وقوانين العلوم تؤكد أن مثل هذه الفرص، وخاصة لمن يرصد آليات ذلك المنطق ويقرأ بتمعن تلك القوانين، لا تأتي بشكل مباغت ولا تفرض نفسها على نحو مفتعل، إنما هي حصيلة تراكمات تاريخية تسيرها قوانين علمية تقود إلى إنضاج تلك الفرص بعد توفير الظروف الموضوعية التي تساعد من يتحينها على أن يشعر بها ويتفاعل إيجابياً معها.
خطورة الفرص أنها لا تكرر نفسها، وعودتها في شكل جديد يحتاج إلى انقضاء مراحل تاريخية طويلة لا تقصر منها حسرات من أضاعوها.