الرأي

«أوضاع العالم 2011»

نـــوافــــذ

أصدرت مؤسّسة الفكر العربي في بيروت كتابها الخامس حول “أوضاع العالم 2012”، الذي أشرف على محتواه برتران بادي ودومينيك فيدال، وقامت على ترجمته هدى مقنَّص، وهو كتاب يستحق القراءة لرصانة معالجاته وغنى مادته، لكني وجدت ضرورة العودة للإصدار الرابع الذي سبقه “أوضاع العالم 2011”، الذي قامت بترجمته السيدتان جورجيت فرشخ فرنجية وماري يزبك، لما يثيره، هو الآخر من قضايا يحتاجها القارئ العربي، عندما يطالعها بشيء من التمعن بوسعها أن تعينه على فهم ظواهر كثيرة رافقت الأحداث التي عرفتها، وما تزال تعيش بعض ذيولها وتداعياتها المنطقة العربية منذ أواخر العام 2010.
أول رابط بين الكتاب الذي بين يدينا وتلك الأوضاع العربية هو ما جاء في عنوانه الفرعي الذي يقول “نهاية العالم الأحادي”، في إشارة إلى توقع تدهور نفوذ الولايات المتحدة الدولي إلى درجة بات يصعب عليها التحكم في سير بعض المعارك التي تخوضها على الصعيد العالمي. ونظرة فاحصة لتطور الأوضاع العربية، وفشل محاولات واشنطن لتطويعها لصالح سياساتها الخارجية تكفي للدلالة على الاقتراب من مثل تلك النهاية التي يشير لها العنوان الفرعي للكتاب. ولربما يجد قارئ الكتاب في فشل واشنطن في إرغام إيران على أدنى تراجع مهما كان طفيفاً عن مشروعها النووي، فيه الكثير من المؤشرات على صدق نبوءة ذلك العنوان الفرعي للكتاب.
أكثر من ذلك يكتشف القارئ هذا الشلل البنيوي في السياسة الكونية الأمريكية في أول صفحات الكتاب، البالغة 510 صفحات، بما فيها الكشاف وقاعدة البيانات “التي تشمل 51 مؤشراً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعلمية” توزعت مواده الغنية على خمسة محاور رئيسة هي؛ علاقات دولية جديدة، ومسائل اقتصادية واجتماعية، ومجتمعات وتنمية بشرية، وبيئة وتكنولوجيا حديثة، ورهانات إقليمية، ضمت 50 مقالة تسلط الضوء على المناطق الملتهبة من العالم كي تبرز ذلك التأثير المتبادل بينها وبين مسار المحصلة النهائية للأوضاع الدولية القائمة، التي بدورها قادرة على إعادة هندسة الصورة الراهنة والمستقبلية للمجتمع الدولي. يلمس القارئ كل ذلك بوضوح جلي في المقدمة البانورامية المكثفة لأوضاع العالم المعنونة بحرفنة متناهية الدقة لخصها كاتبها أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية (IEP) في باريس برتران بادي، حين أشار إلى أن “اليمين الجديد يعبر الأطلسي”، بات يحدد المسار الذي أصبحت تخضع له العلاقات الدولية، بعد التطورات التي عرفها العالم إثر انهيار الكتلة السوفيتية، وبعد “انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، (حيث يلاحظ برتران، بنظرة ثاقبة أن) السياسة التي يتبعها أوباما تتصف بالحذر والغموض، وكشف الواقع عن تتالي مبادرات لافتة وشجاعة ولكن فعاليتها تبقى غير مؤكدة، وقد تزامن سقوط اليمين الجديد في الولايات المتحدة مع ظهور رؤى جديدة لم تؤدّ مع ذلك إلى بنية مفهومة ولا حتى نموذج بديل، فيما تبين أن ذلك ضروري منذ انهيار جدار برلين، إذ لم يتمكن أحد فعلياً من أن يحدد ماذا حل بالنظام الدولي.. (الأمر الذي أدى إلى) تعذر القيام بأي توليف نظري من أجل الإجابة على السؤال الثلاثي المتعلق بالانسجام بن القيادة الفعلية والعولمة وبفعالية القوة في مواجهة الأشكال التي تتخذها النزاعات العالمية الجددة بين الدول، وبمدى ملاءمة سياسة القوة في عالم فقد القطبية”.
بشكل عام؛ هناك أكثر من محطة يمكن أن يتوقف عندها قارئ الكتاب تبعاً للقضايا التي تثير اهتمامه، لعل من بين أهمها بالنسبة للقارئ العربي مقالة أستاذ العلوم السياسية بجامعة مونتريال ألان نويل المعنونة “النفط والديمقراطية.. عندما يكون النفط إعاقة”. يستعين نويل بدراسة قام بها جيفري ساكس وأندرو وارنر تقول إن “اعتماداً كبيراً جداً على صادرات المواد الأولية يمكنه أن يضر بنمو الاقتصادي الطويل المدى”. لكن ما هو أهم من ذلك يكمن، كما يرى دويل، في التبعات السياسية لتصدير المواد الأولية لأنه “باختصار يجعل الدولة ريعية معرضة أكثر من سواها للفساد، ما يلحق ضرراً بالنمو على المدى الطويل”.
أما الانعكاس السلبي على المسار السياسي لدولة “الاقتصاد الريعي” فيبرزه نويل عند حديثه عن تركمستان التي كانت “إحدى أكثر الديكتاتوريات قمعاً في المنطقة السوفيتية سابقاً”، وبما أنها كانت “تستمد كل مداخيلها تقريباً من تصدير النفط والغاز، ما يسمح لها بالحفاظ على معدلات ضرائب بالغة الانخفاض،.. ولهذا السبب تفلت بسهولة أكبر من متطلبات تمثيل الشعب ومن المسؤولية. فيبدو النفط بخاصة وهو مصدر ريع بامتياز، غير مؤات للديمقراطية والحكم الرشيد”.
هذا الترابط بين النفط والاقتصاد الريعي من جهة، ودورهما في تقليص هوامش التمثيل الشعبي في الدول النفطية ذات الاقتصاد الريعي من جهة ثانية، يفسر ما شهدته دولة عربية نفطية مثل ليبيا من أحداث قادت في نهاية المطاف إلى الإطاحة بنظام القذافي، ليس من خلال مؤسسات قائمة وإنما عبر معارك دموية طاحنة.
ويخلص نويل في نهاية ورقته إلى استنتاج في غاية الأهمية يقول فيه إن شعار الثورة الأمريكية القائل أإ “لا ضرائب من دون تمثيل برلماني” ربما يبدو صحيحاً بالمطلق، لكن “سياسة الريع تعلمنا أن العكس صحيح أيضاً أحياناً”.
محطة أخرى تجمع بين التشويق والإثارة من جهة، وفهم سياسات بعض دول الغرب مثل إيطاليا من جهة ثانية، تستوقف قارئ الكتاب هي مقالة “إيطاليا.. مجتمع خاضع لسطوة المافيا” من تأليف الأستاذ المحاضر في جامعة فرانسا رابليه في تور، فابريزونا ماكاليا، الذي يثبت فيه بالحقائق الدامغة ذلك الحضور المموه لعصابات المافيا في الاقتصاد الإيطالي، مستنتجاً من خلال ذلك أنه “منذ العقد الأول من الألفية الثالثة، تشير التحقيقات القضائية إلى نمو الإجرام المافوي في الاقتصاد الشرعي، ولا سيما في المناطق حيث يستقر تقليدياً. (حيث) تشكل الاستثمارات التي تقوم بها الدولة والمجتمعات المحلية في إطار برامج تنموية وتجهيزية مصدر غنى العصابات”.
ومن المقالات المهمة أيضاً في ذلك الكتاب تلك المعنونة “النيوليبرالية في مواجهة العمل الإنساني” لكاتبتها المختصة في علم النفس والأستاذة المحاضرة في جامعة باريس 13، مالكة ليتيم، التي ترى أنه “في خلال أقل من قرن، فرغ العمل من معناه، محولاً العامل إلى أداة في خدمة اقتصاد تسيطر عليه الشؤون المالية”، وقد جرى هذا التحول بعد أن، كما تقول ليتيم “أسهم تقسيم العمل الذي أجبر العامل على أن يتحول إلى مجرد منفذ للأعمال في إفقار الاهتمام بالعمل”، منوهة إلى استمرار النقاش مفتوحاً حول مدى مسؤولية إنهاك الموظفين، هل هو “تكثيف العمل.. أم الطريقة التي يتم تكثيف العمل بها”؟.
في نهاية المطاف لا نملك إلا أن نحيي مركز الفكر العربي على إتاحته فرصة إطلاع القارئ العربي، وبلغته الأم، على هذا الكنز القيم من المعلومات والاستناجات.