الرأي

الاكتئاب والتشاؤم «1-2»

نـــوافــــذ

يسود التفكير السياسي العربي اليوم موجة من الاكتئاب، وتسيطر عليه أيضاً نزعة تشاؤمية مصدرهما، من وجهة نظر ضحايا مثل تلك الأعراض شبه المرضية، ما آلت إليه الأمور في الدول التي هبت عليها رياح ما أصبح يعرف باسم “الربيع العربي”، وفي المقدمة منها تونس، وليبيا، وبينهما مصر، وهي الدول التي افترض، أولئك الضحايا، أنها أنجزت مهماتها “الثورية”، فأسقطت الأنظمة القائمة، وأوصلت إلى الحكم قوى جديدة، كان يعول عليها مواصلة “العملية الثورية”، فتضع حداً للأوضاع السيئة التي كانت مستشرية في المجتمع، ، وتبني على أنقاضها تلك الجديدة التي دأبت على الترويج لها.
بعيداً عن تلك النظرة المكتئبة المشوبة بمسحة تشاؤمية، لابد من الاعتراف بما هو صحيح وعلمي وواقعي أيضاً فيها، وهو تشخيصها لتعثر خطوات “الربيع العربي”، بعد إسقاط تلك الأنظمة، والتفاتة القوى التي وصلت إلى السلطة نحو الوراء، وتراجعها في الاتجاه المعاكس، بدلاً من النظر نحو الأمام والتقدم حثيثاً نحو الأهداف التي وعدت بتحقيقها. هذا يقربنا، متقيدين بمعايير القياس ذاتها، التي تستخدمها تلك القوى عند تقويمها للنهايات التي وصل إليها “الربيع العربيي” من المصدر الذي ينبع منه الخطأ الذي تعاني منه تلك النظرة، والناجم، في جوهره دون التوقف عند بعض القشور التي تغطي تلك النظرة، عن الأوهام التي سيطرت عليها أولاً، وعدم تقديرها للأمور ثانياً، وعدم اكتسابها لدرجة النضج التي يتطلبها فهم الأوضاع العربية الغاية في التعقيد ثالثاً، وليس أخيراً.
من الطبيعي أن هناك الكثير من الأسباب الذاتية والموضوعية التي تسير الأوضاع العربية، وهي التي وضعت قطار “الربيع العربي” على تلك القضبان، وبالتالي أوصلته إلى المحطة التي، ربما، لم تكن المقصودة من قبل الكثير من القوى السياسية العربية الطامحة للتغيير، بما فيها تلك التي شاركت بشكل مباشر فيها، وربما شلكت جزءاً مهماً من مكونات صنع قراراتها. ولعل تلك النهاية هي التي أشاعت الاكتئاب وزرعت التشاؤم اللذين نتحدث عنهما.
في البداية لابد من التأكيد على قضية في غاية الأهمية، وهي أن ما حصل من انتكاسة، أو بشكل أدق التعثر الذي يعيشه “الربيع العربي” ليس حالة استثنائية، فقد عرفتهما دول أخرى غير عربية نورد منها على سبيل المثال لا الحصر، التجربة التشيلية في أمريكا اللاتينية التي أوصلت حكم اليسار بقيادة سلفادور الليندي إلى السلطة، والذي حاز حينها، بالإضافة إلى الدعم الداخلي، على وقوف قوة عالمية عظمى حينها هي الاتحاد السوفيتي، والكتلة الاشتراكية من ورائه، إلى جانبه على المستوى الدولي، ومساعدة كوبا له على المستوى الإقليمي. كل ذلك لم يمنع نظام الليندي اليساري من السقوط، وعودة “فلول” النظام القديم، بدعم ومساعدة الولايات المتحدة إلى السلطة. هناك أيضاً تجربة أخرى شهدتها القارة الآسيوية في كمبوديا، عندما تحول “الخمير الحمر”، بعد وصولهم إلى السلطة، من حركة للتحرر الوطني، إلى قوة بطش انتقمت من حلفائها، قبل أن تلتفت إلى أعدائها، وأغرقت البلاد في حمامات من الدم ما تزال البلاد هناك تدفع ضرائبها الباهضة التي انتهكت قواه السياسية، ومزقت نسيج تلاحم منظماته المجتمعية، ومن ثم أنهكت الاقتصاد الكمبودي، وشوهت مسارات تطوره. لذا فليس من المستبعد، أن ينتهي “الربيع العربي”، في محطته الأولى إلى واحدة، ليست متطابقة، لكنها قريبة الشبه من المحطتين التشيلية والكمبودية.
من هنا لابد من أن تكون هناك بعض الأسباب التي أوصلت تلك البلدان إلى خطوط النهاية التي تقف عندها اليوم، ونجحت، إلى حد بعيد في إشاعة الاكتئاب والتشاؤم التي نتحدث عنهما في نفوس البعض، ويمكن رصد الأهم بينها في النقاط التالية:
1- طبيعة الأنظمة العربية التي أطاحت بها رياح “الربيع العربي”. فمن أهم السمات اللصيقة بتلك الأنظمة كونها معمرة، إذ يبلغ متوسط أعمارها ما يربو على نصف قرن، وربما تزيد عن ذلك قليلاً. هذا يعني أن جذور تلك الأنظمة عميقة في تربتها التي تقف فوقها، وبالتالي هي بحاجة إلى زوابع أعتى بكثير من رياح ذلك “الربيع العربي”، كي تقتلعها من أصولها، ولا تكتفي بإسقاط الجذوع البارزة منها فقط. فقد شاهدنا قدرة تلك الجذور الراسخة التي أبقت على نفسها مختفية على إعادة إنتاج الجذوع، كما هي الحال في مصر، عندما جاءت ولادة الوزارة الأولى بمثابة حل توفيقي بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري، بوصف كونه أكثر المؤسسات تمثيلاً لرموز النظام القديم، كي تمارس دورها السلبي الهادف إلى وضع العصي في دواليب عناصر التغيير من أجل إيقاف دورانها، فيما لو فشلت في الالتفات عليها وإجهاض مسيرتها. ليس المقصود بالجذور هنا القوى البشرية، فحسب، فهناك، على سبيل المثال، الأنظمة والقوانين التي سنتها تلك الأنظمة، التي تخدم مصالحها، وحولتها إلى ما يشبه النواميس التي لا يأتيها الباطل من أمامها، ولا من خلفها، وعلى الجميع أن يقبل بها، ويتطبع بقيمها، ويقف في وجه من تسول له نفسه المساس بها.
2- قيم الفساد الاجتماعي / الاقتصادي التي فرخت في أحضان تلك الأنظمة، وتمأسست حتى باتت سلوكاً اعتيادياً، ليس في صفوف موظفي الدولة فحسب، وإنما امتدت كي تعدي المواطن ذاته، ثم اتسع نطاقها فتفشت في أوساط المؤسسات، وعلى وجه الخصوص تلك القريبة من دوائر صنع القرار. نجحت تلك القيم أن تضرب بجذورها عميقاً في تربة المجتمع بمختلف مؤسساته، بما فيها تلك الأنشطة في قطاع منظمات المجتمع المدني، ونمت وتطورت، بكل ما تحمله من سلبيات ومساوئ، كالفطر الذي يتناسل ذاتياً، ويتكاثر بوتائر سريعة يصعب التحكم فيها، ومن ثم استئصالها. مثل تلك القيم الفاسدة الراسخة، بحاجة إلى ما هو أكثر جذرية من مجرد الإعلان عن إسقاط النظام، وأعمق من تلك التغييرات الشكلية شبه التجميلية التي تقف عند سطح الإجراءات الإدارية المحضة، التي لا تستطيع، بفضل المقاومة التي تواجهها، من الغوص عميقاً في أغواره، كي تقتلع النظام من جذوره، القادرة بفضل طبيعتها الفطرية على إعادة التوالد، والانتشار.
3- القوى الاجتماعية التي خرجت من رحم تلك الأنظمة، وأصبحت، هي الأخرى، مرتبطة بآليات المصالح التي ولدتها طبيعة الأنظمة المطاح بها والقيم الملتصقة بها. هذا التزاوج الثلاثي الأبعاد الذي تم، بموجب قوانين حركته، بين طبيعة الأنظمة، وقيمها الفاسدة، والفئات المجتمعية المستفيدة منها، أنجب وحشاً كاسراً، له أكثر من رأس، كل منها قادر، متى ما قطع أحدها، على أن يمد جسد الرأسين الآخرين، بالقدرة على النمو، ومن ثم الاستمرار في الحياة. هذا التوالد ذو الأبعاد الثلاثة، شتت قوى “الربيع العربي”، وأرهق حركتها، وأجبرها، في حالات كثيرة، على القبول بحلول توفيقية، تمت على حساب الأهداف التي اندلعت من أجل تحقيقها نيران التغيير المصاحبة لبركان “الربيع العربي”.