الرأي

مراجعات في متاهة يسارنا «3»

مراجعات في متاهة يسارنا «3»

في خاتمة هذه المراجعة حول يسارنا في متاهته، كان علينا أن نوضح أن القوى التي نشأت وتطورت تاريخياً بوصفها معارضة ديمقراطية علمانية «يسارية أو غير يسارية» تستمد شرعية حضورها من وضوح برامجها السياسية وصدقية تحالفاتها واتسامها بالتناسق مع المبادئ الأساسية للتيار، ومن اعتمادها النشاط السلمي أسلوباً في نضالها، والتمسك بدولة القانون وبآليات العمل الديمقراطي، وبذلك فقط تكون قادرة على كسب ثقة المجتمع عبر استنباط المهام المناسبة دون مغالاة، ولذلك يفترض بقوى اليسار الديمقراطي التي تناضل من أجل بناء وترسيخ الديمقراطية والحريات والعدالة، أن تصطف وراء هذا الهدف الاستراتيجي الذي ينسجم مع أهدافها الأساسية ومع حركة التاريخ، فيكون الموقف الديمقراطي - التقدمي داعماً لأي توجه إصلاحي للدولة، لا دفعاً به إلى الخلف، من خلال ممارسات وتحالفات ومواقف لا تخدم التجربة الديمقراطية وهي في بدايتها، بما يسهم في تأخر تحقيق نتائج إيجابية، بما في ذلك النتائج على صعيد الإنجاز الديمقراطي نفسه، حيث إن النكوص أو التراجع في هذا المجال لا يخدم سوى القوى المعادية للديمقراطية وبوجه خاص القوى المحافظة في كل اتجاه وضمن أي تيار.. وهي القوى التي تجمع على رفض الحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة.
ولاشك أنه وبسبب التشخيص الخاطئ لبعض قوى يسارنا لطبيعة المجتمع ولطبيعة السلطة معاً، تم في أغلب الأحيان اتخاذ مواقف سلبية ممعنة في الاستفزاز تجاه السلطة، وممعنة في التبني لأطروحات ومواقف فوضوية وغير قانونية صادرة عن جهات تمارس العنف وتدعو إلى الانقلاب على الثوابت المتفق عليها سياسياً واجتماعياً وقانونياً، ففي كثير من الكتابات والبيانات والندوات توصف السلطة بأنها «متسلطة وغير ديمقراطية وغير جادة» إلا في استثناءات محدودة ومرتبطة بلحظة محددة، وفي المقابل كان هنالك ما يمكن تسميته بالتحالف - التنسيق، مع التيارات الأشد معاداة للديمقراطية ولدولة المؤسسات والقانون وللحداثة في مجملها، واتخاذ بعض المواقف التي تبدو كانقياد إلى أجندات ترى وجود مصلحة ما في إدماج «التطرف والتخلف» داخل نسيج المجتمع المدني، بما يوحي -حسب تقديري- أن المسألة تتجاوز مجرّد التنسيق السياسي المؤقت مثلما يدعي البعض من يساريينا، إلى نوع من التحالف الانتهازي «الاتحاد فقط ضد السلطة» لأن التحالف يحيل بالضرورة إلى نوع من التغاير والتضادّ في مرجعيات الأطراف الداخلة فيه، بل يحيل إلى مواقف سلبية لا تخدم ورشة الإصلاح السياسي والاقتصادي التي كانت تعيشها البحرين في معتركها للتقدم التدريجي نحو أفق أوسع من العدالة والحرية والديمقراطية، بل إن بعض المواقف والتصريحات بدت في بعض الأحيان أقرب إلى منطق «النكاية»، منها إلى الموقف السياسي الرصين الذي يخدم حركة التاريخ ومصلحة القوى الديمقراطية - التقدمية في النهاية، إلا أن التقاء جميع القوى «بما في ذلك المتناقضة أيديولوجياً» بمعزل عن الخلاف الفكري والسياسي والطبقي تكون بالدرجة الأُولى في ظروف الاحتلال والعدوان الخارجي.
لكن سيكون من الخطأ بالمقابل ألا يأخذ اليسار بعين الاعتبار في نضاله من أجل التغيير والديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية حقيقة علاقة الجماهير الكادحة بإيمانها ومرجعيتها الدينية. كما إن تأكيدنا على المحافظة على الهوية اليسارية لليسار لا يعني أن يتخذ اليسار موقفاً معادياً للدين ولا حتى موقفاً سلبياً منه، لكنه معني بألا تصبح المرجعيات الدينية صاحبة الرأي والقرار في العمل السياسي والنضالي، لاسيما إذا تعلق الأمر ببناء الدولة والحريات العامة والخاصة والعدالة الاجتماعية.
فمن شعارات اليسار الأساسية «مثلاً» الفصل بين الدين والدولة، إلا أنه وبعد انهيار التجربة الاشتراكية، ملأ الفراغ الإسلام السياسي بتنويعاته المختلفة، بما يدعو اليسار إلى تنفيذ مراجعة فكرية واقعية، ضمن الحاجة الموضوعية في الوقت الراهن لالتقاء محدد بين اليسار وبين بعض هذه القوى في بعض القضايا، شرط أن يبقى يسارنا محافظاً على استقلاليته كيسار علماني لبناء دولة قائمة على الفصل بين الدين والدولة التي تسود فيها الديمقراطية والحق والقانون ضمن مجتمع مدني تعددي يحترم الحريات العامة والخاصة، وخصوصاً حرية المرأة.