الرأي

معركة طرابلس لبنانية أيضاً

معركة طرابلس لبنانية أيضاً

إلى جانب البعد السوري الواضح، ثمة بُعد لبناني للمعارك التي تشهدها مدينة طرابلس ومؤداه إعادة رسم التوازنات الداخلية المختلة.
أُهملت هذه الزاوية من النظر بسبب جسامة الأحداث في سوريا والتعقيدات الكثيرة المرافقة لها والانعكاسات المنتظرة منها على مستوى المنطقة برمتها. لبنان ساحة من تلك التي ستشهد تغيرات كبيرة سواء أثناء المسار الثوري السوري أو بعد انهيار ما تبقى من حكم بشار الأسد.
تعلن معارك طرابلس، بالوتيرة والعنف غير المسبوقين اللذين تدور بهما منذ مطلع الأسبوع، أن ميزان القوى الداخلي المائل بشدة لمصلحة تحالف «8 اذار» منذ 2008، بات قابلاً للتغيير، أو على الأقل لتجربة تعديله ميدانياً وسياسياً. يستند هذا الاستنتاج إلى أن المناخ اللبناني الذي فرضه «حزب الله» وأنصاره بهجومهم على بيروت في مايو من ذلك العام، ينتمي إلى المنظومة الإقليمية التي تعيش في دمشق آخر أيامها، وإلى حقيقة أن «الربيع العربي» سيجد صياغته اللبنانية، الأكثر تلاؤماً مع المستجدات في المنطقة.
تتأسس هذه الفكرة على الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه «حزب الله» بانحيازه الفاقع إلى نظام الأسد، متجاهلاً طبيعة الثورة السورية الشعبية العريضة واستحالة بقاء السوريين أسرى رطانة «البعث» الممانعة، من جهة، والحكم المافيوي –العائلي الفج، من الجهة المقابلة. وبغض النظر عن العامل الإيراني الذي فرض انحياز الحزب اللبناني، حيث فضلت «الجمهورية الإسلامية» الاحتفاظ بالقوة العسكرية والأمنية التي رعتها ومولتها ودربتها كورقة في الاستراتيجية الإيرانية الكبرى ولو على حساب صدقية «حزب الله» وعلاقته بمحيطه المتعدد طائفياً وسياسياً. بغض النظر عن ذلك، أتاح هذا الخطأ الفرصة للكثير من القوى لتطويق «حزب الله»، وعزله ضمن جماعته المحدودة وتكسير الامتدادات التي أنشأها أو استثمر فيها خارج بيئته المباشرة. ومن الامتدادت هذه، الجماعات المسلحة المؤيدة له في طرابلس. ويتضمن ذلك تعرية خطاب الحزب وإعادته إلى مكوناته المذهبية الطائفية الضيقة، ونزع هالة المقاومة التي واجهت إسرائيل عنه، بعدما استسهل هو إهدار رأس مالها المعنوي والرمزي في زواريب السياسات المذهبية اللبنانية واندراجه - راضياً أو مرغماً - في تحالف الأقليات.
والواقع أن تحالف «8 اذار» أساء أيضاً قراءة المتغيرات داخل الطائفة السنّية، من اضمحلال الحريرية السياسية وفراغ شعاراتها من أي مضمون عملي – ناهيك عن انعدام الرؤية والكاريزما عند قيادتها، من بين نقائص أخرى كثيرة - وتفاقم حالات الحرمان والتهميش في الأرياف السنًية «على نحو يُذكِّر بالحالة في سوريا»، والضغط الذي مارسته القاعدة السنّية للانتقال إلى العمل المباشر رداً على محاولات إقصاء الطائفة من المعادلة السياسية اللبنانية، والتي قادها ميشال عون بتغطية من «حزب الله» وحركة «أمل»، بذريعة استعادة حقوق المسيحيين.
وبعد عمليات صغيرة نسبياً، كالاشتباك في طريق الجديدة في بيروت والاعتصام في صيدا، وبعد استعراضات للقوة في عكار، بدا أن الوقت مناسب لتوسيع نطاق الاشتباك وتوجيه رسالة إلى من يهمه الأمر أن الموقف على وشك أن يشهد تغيراً جذرياً. هذا من دون إيلاء أهمية للوقائع البوليسية حول هوية مفتعل الاقتتال في طرابلس.
لا مجال لحديث جدي هنا عن دور للدولة اللبنانية ومؤسساتها في لجم الأعمال المسلحة. ذلك أن الصراع يدور حول مستقبل هذه الدولة والمؤسسات. ومن جهة ثانية، يعسر أن يعيد أنصار النظام السوري النظر في مواقفهم. لقد قرروا الغرق معه.
لكن كل ذلك لا يعني بحال أن مستقبلاً مشرقاً ينتظر اللبنانيين عند الناصية.
? عن صحيفة «الحياة» اللندنية