الرأي

الربيع العربي.. ماله وما عليه (2)

نــــوافـــذ

بعد التأكيد على تلك الحقائق التي سردناها في الحلقة الأولى من المقال؛ يمكننا الانتقال لعمل جردة أولية تحصر الإيحابيات التي أفرزها ذلك “الربيع” على نحو مواز مع تلك السلبيات التي تمخض عنها.
أول تلك الإيجابيات، إضافة إلى ما أشرنا له في الحلقة الأولى، هو الاستجابة الطبيعية التلقائية لنداء التغيير الموضوعي الذي فرضته عوامل التطور المنبثقة من النمو الذاتي الذي شهدته المنطقة العربية على امتداد النصف القرن الماضي حياتها، والمتفاعل إيجابياً مع تلك التحولات المتسارعة التي شهدها العالم خلال الفترة ذاتها. هذا التفاعل الحيوي ذو الاتجاهين المتكاملين؛ تقبل التطور الخارجي وإضفاء النكهة المحلية عليه، فتح أعين الكثيرين ممن هم في أروقة الحكم أو في صفوف المعارضة، إلى ضرورة الالتفاف إلى موجة التغيير القادمة والتفاعل الإيجابي معها.
استكمالاً لذلك نتوقف هنا عند نقطة في غاية الأهمية، وهي أن الحاجة باتت أكثر إلحاحاً كي يعيد من يريد أن يكون في صفوف المعارضة الحية القادرة على إحداث التغيير المطلوب النظر بصدق وشفافية، ليس في انتماءاته العقيدية أو التزاماته الأيديولوجية فحسب؛ بل وحتى أشكاله التنظيمية التي يطبقها وشعاراته النضالية التي يرفعها، كي تأتي متناسبة مع رياح ذلك التغيير الربيعي إن هو أراد أن يمتلك مقومات الاستمرار، وعناصر التأثير التي تمده أيضاً بما يحتاجه من قوى الانتشار في صفوف المواطنين التي يخاطبها وتكون كلمته مسموعة لديهم.
ثاني تلك الإيجابيات هو نزع ورقة التوت التي حاولت أن تتستر بها القوى السياسية العربية كافة من أجل إخفاء عيوبها الجسدية وتجميل تشوهاتها البدنية. ففي منعطفات متعددة من مسارات ذلك الربيع، وجدنا حركة تلك القوى بفئتيها الحاكمة والمعارضة شبه مشلولة، بعد أن فقدت قدرتها على مواكبة حركة الجماهير التي كانت أشد منها سرعة وأكثر منها مرونة، الأمر الذي أفقد الأولى الكثير من ادعاءاتها وأمد الثانية بالحيوية التي كانت في أمس الحاجة لها. هذا الكشف السريع والعميق لم يكن ليتم كي يختزل مسافات زمنية طويلة لو لم تهب على المنطقة رياح ذلك “الربيع”.
ثالث تلك الإيجابيات كانت تهشيم أوعية بعض المقولات وكسر قوالبها المتحجرة المسيطرة على ذهنية القوى السياسية العربية بفئتيها والتي كانت تتحكم في سلوكها. فقد هزت رياح الربيع العربي قيم العمل السياسي التي تفرض توارث المناصب القيادية في الفئتين، وبتنا نرى الشارع العربي يتقبل برضى مصدره القناعة الذاتية بدور الأجيال الشابة في قيادة عمليات التغيير التي يحتاجها المجتمع. لقد كنست رياح الربيع العربي مقولات اجترتها الحركة السياسية العربية لقرون من عملها المعاصر، ولم يكن بالإمكان أن يتم ذلك لولا هبوب تلك الرياح.
رابع تلك الإيجابيات كان تعرية ادعاءات القوى الدولية فيما كانت تروج له من “الأهداف النبيلة” التي تدفعها للتدخل في شؤون العرب الداخلية، فقد جاءت المواقف التي تمترست وراءها تلك القوى والطرق الملتوية التي لجأت إليها، كي تكشف بالملموس البون الشاسع بين المصالح الوطنية العربية الصريحة وأهداف تلك القوى الخبيثة المبطنة. ومن ثم أكدت بما لا يقبل الشك، وفي مناطق متكررة من مراحل الصراع الداخلي، حاجة الطرفين المحلي والدولي إلى الإفصاح عن أهدافهما أمام خيارين لا ثالث لهما، أما التضخية بالمصالح الذاتية وخضوع طرف منهما للآخر أو الإعلان الصريح عن التضارب غير القابل للمساومة بين تلك المصالح. وهنا أرغمت رياح الربيع العربي الطرفين على الوقوف عاريين أمام بعضهما البعض، وأجبرتهما على الكشف عن أوراقهما.
خامس تلك الإيجابيات هو غرس بذرة التأني وطرد ذهنية الاستعجال، فقد اكتشف الجميع أن عملية االتغيير، مهما كانت درجة سلميتها أوعنفها، وما يرافقها من رغبة في التطوير هي عملية طويلة ومعقدة ولا تسير في خط بياني مستقيم يتجه دوماً نحو الأعلى. بل هي على العكس من ذلك تقوم على معادلة معقدة تتجاذب عواملها عناصر الصراع وترغمها على السير في طرق متعرجة وتركب درجات ملتوية، ومن ثم فهي عرضة للانحرافات والتموجات والتراجعات والتقدم والصعود والهبوط، قبل أن تحدد مسارها النهائي المتجه بشكل مستقيم نحو أهدافها التي يفترض أن يكون قد تم تحديدها بشكل صحيح وضمن مقاييس سليمة قابلة للتحقيق.
مقابل تلك الإيجابيات وعلى نحو مواز لها ومتداخل مع عناصرها؛ تبرز أمامنا أيضاً مجموعة من السلبيات التي لا يمكن القفز من فوقها، والتي يكمن الأهم من بينها في النقاط التالية:
أول تلك السلبيات هي غيوم حالة الإحباط الشديد السوداء التي ساقتها رياح “الربيع العربي” حثيثاً نحو ساحة العمل السياسي العربي، وتفشيها في صفوف المواطنين على نطاق واسع وبشكل سريع. فبتنا نسمع تنهدات تتحسر على ما كان قائماً قبل هبوب تلك الرياح، وسرت موجة من الحنين للعودة إلى تلك العهود السابقة، رغم اعتراف الجميع بما كان يعتريها من سلبيات، لكنها وحسبما زرعته تلك الحالة المحبطة أفضل مما أتت به تلك الرياح. أدى ذلك إلى شيوع حالة يأس سديمية غير معروفة الاتجاه، وهو أخطر مرض يمكن أن تعاني منه جماهير حركة طامحة للتغيير، التي لن تنجر حينها إلى الخلف، بل ربما تضطر إلى اللجوء إلى ما يشبه التآكل الداخلي، وهو ما شاهدنا بعض حالاته في بلدان “الربيع العربي”.
ثاني تلك السلبيات كانت التشرذم الذي طغا على سلوك القوى التي برزت على سطح العمل السياسي المرافق لتلك الرياح، والتي تمظهرت في أشكال صراعات مغلفة ونزاعات مقنعة حاولت أن تخفي مجموعة الخلافات المناطقية والقبلية والطائفية وتلك النابعة من نزعات أنانية ذات جذور مصلحية ضيقة، لكنها فشلت في تمويهها والتي ظهرت في مراحل معينة من الصراع، رغم المساعي التي تحاول إخفائها. كشف كل ذلك عدم نضوج المجتمعات العربية، ونزع عنها قشرة التمدن المجتمعي الرقيقة التي كان الجميع مخدراً بأوهامها وغارقاً في الأحلام الوردية المصاحبة لها.
لقد أفاق العرب بفضل تلك الرياح كي يكتشفوا، وربما في مرحلة متأخرة بعض الشيء، أنهم لم ينتقلوا بعد من مراحل القبلية / الطائفية / الفئوية إلى مجتمعات المواطنة العريقة التي نحلم بها.
كانت تلك جردة سريعة حاولت أن أميط اللثام عن بعض مكونات “الربيع العربي” وإفرازاته، وهي بحاجة إن أريد لهذا الربيع أن يشكل محطة انتقال إيجابية تأخذ بيد المجتمعات العربية نحو الأمام إلى وقفة مصارحة مع الذات، تقوم على قراءة علمية معمقة لأحداث الربيع العربي، تنطلق أساساً من تشخيص الأسباب التي فجرته وعلى النحو الذي تمظهر فيه، وتنتقل بعد ذلك لتقويم سلوك القوى السياسية العربية التي أخرطت فيه، بفئتيها الحاكمة والمناهضة لها، وترصد النتائج المتولدة من حالات الصراعات التي عرفتها المنطقة خلال فترة الربيع العربي، والمرحلة التي تلتها، وتنتهي من كل ذلك بمجموعة من الخلاصات التي تقوم النهايات التي آلت لها أحداث ذلك الربيع، بما في ذلك التسمية التي أطلقت عليه.