الرأي

التجزئة العربية الافتراضية

نــــوافـــذ

لسبب ما، وربما لعدة أسباب يصعب تفسيرها منطقياً، يصر العرب على السير ضد حركة التاريخ سواء كان ذلك بوعي منهم أو دون وعي. يمكن تشخيص هذه الحالة العربية المتفردة فيما نشهده اليوم على شاشات التلفاز أو نتلقاه في هيئات موجات إلكترونية مقروءة أو مسموعة -مرئية تمطر هواتفنا النقالة أو أجهزتنا المحمولة من خلال قنوات شبكات التواصل الاجتماعي-. أشدد على القول إننا نسير في اتجاه معاكس لحركة التاريخ، لأن حركة المجتمعات البشرية تتجه اليوم وبسرعة فائقة نحو العولمة، وفي القلب منها العولمة الافتراضية (Virtual) وعلى الصعد كافة، بما فيها الجوانب الاجتماعية والاقتصادية بل وحتى السياسية. فنجد السلوك البشري يتجه نحو التقارب بدلاً من التنافر، ونلمس ذلك الترابط الاقتصادي العضوي الذي بات ينظم العلاقات بين كتل بشرية / سياسية ضخمة من مستوى السوق الأوروبية المشتركة، والاقتصادات الناهضة (BRICS)، ونشاهد التحالفات السياسية بين دول تبدو في الظاهر متنافرة، كما هو الحال بين الهند والصين. كل ذلك بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات والافرازات المنبثقة عنها والمرافقة لها.
أمام تلك الظاهرة الكونية الافتراضية المتفاعلة إيجابياً والمتجهة منطقياً في انسجام تام مع حركة التاريخ المرافقة لها نحو التآلف، الذي يتجاوز الخلافات العرقية ويشذب بشكل حضاري تناحرات الحدود السياسية، ويقلص إلى حد بعيد التنافسات الاقتصادية التجزيئية لصالح التكتلات العملاقة، نجد ظاهرة عربية منافية لها وتسير في خط معاكس لقوانينها. فرأيناها تستخدم الكون الافتراضي لاستفراغ أحقادها القبلية الدفينة واجترار صراعاتها الطائفية التي استخرجتها من أدراج توهمنا أنها باتت مقفلة بفضل قوانين التطور التاريخي نحو المجتمع المتمدن.
فمن يتابع الأنشطة العربية على قنوات التواصل الاجتماعي وعلى وجه الخصوص منها التغريدات (Twitter) ومحتويات “الفيسبوك” (Facebook)، سوف يصدم بأن محتوياتها تنضح بالمواد النابعة من خلفيات تجزيئية تفيض بالحقد المتبادل المؤجج لتمزيق المجتمع العربي بدلاً من تجميعه، وهو ما ترمي له شبكات التواصل الاجتماعي التي نتحدث عنها، والتي تشكلت أصلاً لإزالة الفروقات بين المجتمعات البشرية، وتعميق التواصل فيما بينها، ومساعدتها على إدارة حوار حضاري راق وناضج، يزيل من طريق الأمم، قبل الأفراد، العقبات الطبيعية الجغرافية والزمنية التي كانت جراء تخلف الإنسان التقني والفني، تقف في وجه أي شكل من أشكال التفاعل الإيجابي الذي تسعى له المجتمعات البشرية المتمدنة في وقتنا الحاضر. نجحت القوى السياسية العربية في تجيير مواد شبكات التواصل الاجتماعي لخلق حواجز من نمط جديد زرعتها في أعماق المواطن العربي، وأدت إلى بناء أشكال جديدة من التجزئة التي يمكن وصفها بالافتراضية، لكنها باتت اليوم، ولسوء حظنا جميعاً، تمتلك مرتكزات صلبة على أرض الواقع العربي الملموس.
تاريخياً؛ ألقينا بمسؤولية التجزئة العربية المعاصرة على الاستعمار، وأخفينا عوراتنا القبيحة التي ساعدت الاستعمار على القيام بذلك بأوراق توت التبريرات الواهية، التي لم تصمد أمام الحقائق التاريخية، باستثناء في أذهان بعض العقول التي ترفض الاعتراف بالواقع وتصر على الاستمرار في سعادة مزيفة تجتر خلالها أمجاد وحدة عربية تاريخية ليس لها وجود خارج تلك العقول المريضة.
لا نعفي الظاهرة الاستعمارية من تغذية الخلافات وتأجيجها كي تصل إلى درجة التناحرات، والتي سهلت على المستعمرين تطبيق مشروعاتهم التمزيقية التي تخدم مصالحهم الأنانية المباشرة، والمستمدة قوانينها من مقولة “فرق تسد” الرومانية الأصل، والتي طبقها الاستعمار الغربي، وعلى وجه الخصوص البريطاني منه الذي ابتلينا به عدة قرون، بحذافيرها وبشكل مبدع قبل أن يُرغم على الرحيل عن بلادنا العربية.
فأصبحت بلاد الشام أكثر من دولة لا يفسر تكونها سوى انسجامها مع المشروعات الاستعمارية الهادفة إلى توزيع ثروات المنطقة فيما بينها، من خلال تقسيم مناطق النفوذ على تلك القوى الاستعمارية، فأخذت فرنسا سوريا ولبنان، وحظت بريطانيا بشرق الأردن والعراق، بعد أن زرعت بريطانيا وفرنسا، الكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات سايكس- بيكو سيئة الذكر ووعد بلفور التآمري، في قلب المنطقة العربية.
وفي منطقة الخليج؛ تحولت الجزيرة العربية إلى فسيفساء سياسية يحتل كل قطعة منها كيان سياسي مستقل له كل المقومات الشكلية التي يتطلبها اعتراف المجتمع الدولي به كدولة قائمة بذاتها. ولم تكن المصالح البترولية الاستعمارية بعيدة عن تلك التجزئة السياسية، التي مانزال نعاني نحن شعوب المنطقة من نزيفها القاتل حتى يومنا هذا.
ليس هناك من يبرئ الاستعمار من جرائم التجزئة العربية القائمة، لكن مشاريع التجزئة تلك لم تكن لها أن تتحول من خططها المرسومة لها في أذهان القادة الاستعماريين إلى حقائق راسخة على أرض الواقع العربي، لو لم تجد لها القوى المحلية العربية التي استحسنتها وانخرطت في تنفيذها من أجل مصالحها الذاتية الضيقة التي تطابقت مع تلك المشاريع الاستعمارية التي نتحدث عنها.
اليوم؛ تتكرر الصورة التجزيئية المشوهة لكن بشكل مأساوي أكثر تعقيداً من ذلك الذي رافق الحركة الاستعمارية، حتى وصلت جذوره إلى أعماق كل مواطن عربي، فأصبح يمس سلامة كل كيان سياسي عربي قائم، ويهدد بنقل تلك التجزئة من حيزها الافتراضي إلى واقعها الجغرافي/ الاجتماعي.
من يرصد مكونات مواد التواصل الاجتماعي سيجد أنها، باستثناء نسبة ضئيلة منها، تحمل الدعوات التجزيئية المبطنة والواضحة، التالية:
1. الطائفية؛ حيث باتت كل مجموعة طائفية تتخندق وراء ولائها الطائفي بعد أن تترك متاريسها الوطنية بحثاً عن مصالح أنانية ضيقة تغلفها بمبررات تاريخية جوفاء. تستحضر تلك المواد الطائفية أحداثاً تاريخية تختارها بعناية فائقة كي تخدم مشروعها الطائفي المعاصر، مستفيدة في ذلك من أخطاء يرتكبها الطرف المنافس لها أو غريمها الذي ألبسته أردية طائفية كي تروج لمشروعها الطائفي التجزيئي. ولا تترد تلك الدعوات التجزيئية المشينة عن الإساءة لقادتنا التاريخيين عرباً كانوا فحسب أم مسلمين أيضاً.
2. الفئوية؛ فضمن الطائفة الواحدة تبحث تلك القوى التجزيئية عن خلافات فئوية أكثر ضيقاً، ضمن الطائفة الواحدة أو حتى المذهب الواحد، بعد أن تلون الإطار الفئوي التجزيئي الذي تنادي به بألوانها الخاصة التي تستمدها من تحريف للتاريخ أو تشويه متعمد لأحداثه. ولا تتوانى هذه الجهات المغرقة في فئويتها عن الاستنجاد بنصوص دينية بعد أن تجتزؤها من سياقها الصحيح، كي تروج لأفكارها التي لا تخدم سوى مشروعات تشظية الأمة وتمزيق أوصالها.
3. السياسية؛ من خلال الاستعانة ببعض الخلافات السياسية العربية وتضخيمها ورفع مستواها التناحري من مجرد خلافات حدودية يمكن التوصل إلى حلول حضارية لها بشكل متمدن إلى صراعات كيانية ترقى إلى درجة الصدامات المسلحة، تستنفر لها الجيوش ويستعان فيها بقوى خارجية، تجد في تلك الدعوات فرصاً تاريخية لا تعوض من أجل إحكام قبضتها على المنطقة العربية وزيادة نفوذها فيها وضمان امتصاص خيراتها ولأطول مدة ممكنة.
قد تحقق تلك المواد التجزيئية بعض المكاسب لأولئك الذي يقفون وراء الترويج لها ويغذونها، لكنها تبقى، بغض النظر عن نوايا أصحابها، ضيقة في حدودها، قصيرة في زمن استمرارها، ومناهضة لحركة التاريخ في صيرورتها. المؤلم في هذه التجزئة العربية الافتراضية، أنها مهما يبرر لها أصحابها ذاتية المنشأ، وتسير ضد حركة التاريخ، وفي اتجاه مناقض لقوانينها، أدرك أصحاب هذه الدعوات أم تجاهلوا ذلك.