الرأي

حربنا الإعلامية الباردة مرة أخرى.. العجـــــز عــــــــن إدارة الخـــــلافات

حربنا الإعلامية الباردة مرة أخرى.. العجـــــز عــــــــن إدارة الخـــــلافات

تطفو على السطح باستمرار ترجمة فورية لحظية لصراعاتنا وخلافاتنا السياسية والاجتماعية، مجسدة على صعيد الإعلام، فيما يشبه الحرب الإعلامية الباردة التي تستقطب جيوشاً من المواطنين، من الذين دخلوا على خط الدعاية أو الحرب الإعلامية الجديدة، غير مؤهلين لا مهنياً ولا فكرياً، بل وكثير منهم بدا وكأنه تجرد (بسبب انعدام المسؤولية الأخلاقية والقانونية) من القيم ومن روح التسامح، فأصبحت الساحة الإعلامية أقرب إلى ساحة حرب، فيها قادة وجنود وبيادق وقنابل موقوتة وزجاجات حارقة، وعجلات محروقة وطرق مسدودة، وقصف متبادل وخطط وتكتيكات وأكاذيب وحيل ولعب، تسهم ربما دون إدراك في تدمير البنية التوحيدية للمنظومة الاجتماعية التي تطلب أمر توحيدها قروناً من الزمان، يحدث كل ذلك بالتوازي مع فوضى الشوارع ومع تكتيكات الحرق والسد والسكب الشهيرة، دون أن يشعر هؤلاء أو أولئك بأي إشكال يتعلق باحترام الحريات العامة والخاصة أو احترام حقوق الآخرين.
وإذا كان من الطبيعي أن تؤدي مناقشة أي ملف وطني إلى اختلاف الآراء والمواقف، بحسب المواقع والرؤى السياسية لكل طرف، وبحسب المصالح التي يدافع عنها كل طرف، وإذا كان من الطبيعي أن يكون الإعلام في مقدمة العناصر التي تعكس هذا الجدل وهذا الخلاف وتلك الأفكار والرؤى، وكلما نجح الإعلام في استيعاب ذلك الاختلاف في سياق سلمي وحضاري، كان ذلك أنفع للبلد وللبشر، وكان مؤشراً على قدرة المجتمع على إدارة صراعاته.. وكانت تلك علامة من علامات قوة المجتمع ونضجه وحيويته وسلامته السياسية والنفسية في ذات الوقت، لأن المجتمع الذي يسوده رأي واحد، ولا يسمح إلا لرأي واحد وحيد بالظهور هو بالضرورة مجتمع مختل وغير سوي، إذا كان كل ذلك مقبولاً في سياق أي مجتمع حر، فإنه من غير الطبيعي ولا المقبول أن يتحول الإعلام الوطني بمختلف مشاربه وتخصصاته إلى أداة للتخريب والتدمير: تخريب العقول وتخريب النفوس، بما يستحيل رتقه لاحقاً.
مناسبة هذا القول ما نطالعه من جدل إعلامي واجتماعي وديني عبر وسائل الاتصال والإعلام، وعبر المنابر المختلفة، وشمل هذا الجدل الصحف والمنتديات ومقالات الرأي والمنابر الدينية والمجالس الرمضانية، حول الملف الأمني الذي شغل الناس بتداعياته وبإجراءاته وردود الأفعال المختلفة حوله، وذلك باعتباره من الملفات الحيوية التي تمس استقرار المجتمع وسلامته.
وهذا أمر طبيعي، بل ومطلوب في أي مجتمع ديمقراطي، ولكن الأمر غير الطبيعي وغير المطلوب هو أن يتحول ذلك الجدل -الذي يفترض به ألا يحيد عن الثوابت الوطنية والقانونية والأخلاقية- إلى ما يشبه الحرب الإعلامية الباردة بين بعض الكتاب وبعض الصحف وبعض الصحافيين، وقد باتت هذه الحرب واضحة في مفرداتها المتقاذفة، وفي لغتها الاتهامية، على خلفية الأحداث التي شهدتها البحرين وتداعياتها السياسية والأمنية والقانونية والاجتماعية..
إن هذه الحرب الإعلامية تكرس حالة الاستقطاب والخلاف حول التشخيص والتوصيف والمعالجة، وهذا الخلاف كان يمكن أن يكون مقبولاً لو ظل في حدود الخلاف والحوار الحي، ولكنه تحول إلى حالة من التجاذب والتخوين المتبادل بل إلى العمل على “سحق” الخصم وإلغائه من الوجود عبر الكلمات. لكن الغريب أن طرفي الاستقطاب متفقان تماماً على الأمور الأساسية فلا خلاف من حيث المبدأ -على الأقل فيما ينشر من كتابات يومية- حول أهم العناصر مثار الخلاف في العادة مثل؛ ضرورة إدانة العنف والإرهاب والحرق والتعدي على الأمن وتجاوز القوانين المرعية في البلد، ورفض التحريض ضد البلد وأمنه واستقراره وقيادته الشرعية -ضرورة المحافظة على الحقوق والحريات وتعزيز الديمقراطية والحريات العامة والخاصة- التأكيد على التعايش والوئام بين مكونات المجتمع، التأكيد بأن ما حدث لا يعدو في مجمله وفي خطه العام خروجاً عن الثوابت وعن القيم العامة والمشتركة وأن الخارجين عن القانون يعلنون صراحة أنهم لا يستندون في تصرفاتهم وتحركاتهم وأفعالهم وأقوالهم على شرعية القانون، وإنهم يفتعلون في المقابل شرعيات أخرى مرفوضة من القطاع الأكبر من المجتمع.. ومع هذا الاتفاق الذي يتم يومياً التأكيد على أهم عناصره نجد اتهامات متبادلة بالتحريض والإثارة وتحميل كل طرف للطرف الثاني لجانب من المسؤولية على ما حدث، خاصة في باب التحريض والتحريض المتبادل، باعتبار ما للإعلام من دور فاعل وحيوي في بناء الاتجاهات والمواقف.
.. وللحديث صلة