الرأي

محاولـــــة للفهــــم

محاولـــــة للفهــــم

قال: لقد أشرت في إحدى مقالاتك إلى طبيعة البناء الفكري الذي تستند إليه تلك الجمعية المعارضة، والذي يفسر بعض ما قد يتراءى لنا بأنه تناقض بين ادعاء الانتماء إلى أفق ديمقراطي من ناحية، وبين رهن جميع قرارها إلى شخص واحد، سواء أكان ولياً فقيهاً أو مرشداً عاماً، أليس في ذلك اختزالاً؟
قلت: حتى نخرج من الخلط بين القيم والمفاهيم ونحن نحاول فهم فكر الوفاق السياسي ومرتكزاته الشرعية لا بد أن نتفهم القيم الشرعية التي ترتكز عليها نظرية الولي الفقيه التي تأخذ بها على الصعيد العقدي، فالأمور ها هنا متسقة مترابطة وليست عشوائية، وليس فيها أي مفارقة إلا أن المشكلة أننا لا نتكلم نفس اللغة ولا نستند- خلال تحليلنا إلى نفس القواعد- ولذلك فإن عملية الحجاج التي يدخل فيها البعض مع جمعية الوفاق- دون استحضار الخلفية العقدية- لن تكون مفيدة بأي حال من الأحوال، فالأخذ بنظرية ولاية الفقيه يستلزم شرعياً وسياسياً الأخذ بآليات تعيد الرأي النهائي في كل كبيرة وصغيرة إلى الولي الفقيه ولذلك يبدو الحديث هنا عن العمل الديمقراطي والحكومة المنتخبة عملية خارج السياق لا يمكن استيعابها إلا في إطار المداورة السياسية، ولذلك لا معنى لاستغراب البعض من استخدام عبارة (خادم المرجعية) فتلك نتيجة منطقية ولا غبار عليها بالمعنى الشرعي، وحتى بالمعنى الحزبي، فهنالك احترام وطاعة مفهومين ضمن النسق العقدي لهذا الفكر المتناسق مع مقدماته.
قال: وكيف نفك التناقض بين القول بالديمقراطية وحكومة الأغلبية من ناحية، والأخذ بتوجيه الولي الفقيه من ناحية ثانية باعتباره رأياً فردياً غير قابل للنقاش والمراجعة؟
قلت: إن الأحزاب التي تأخذ بهذه النظرية لا تنظر إلى نفسها كأحزاب سياسية تعارض نشاط الأحزاب السياسية الأخرى، وإنما هي قبلت التعددية السياسية، ولكنها لا تقول عملياً بأن السيادة تأتي عن طريق إرادة الناس (أي عن طريق الديمقراطية وصناديق الاقتراع حتى لو ضمنت لها الأغلبية العددية) لأنها تعتبر الولاية مقدمة شرعاً عن رأي الناس، أما في حالة الأخذ بالمبادئ الديمقراطية فإنه لا أمر ولا رأي يمر قبل رأي الأغلبية...
قال: وكيف يمكن أن نفهم هذا الأمر بالنسبة لموضوع الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات التكميلية، في حين أن نفس المراجع سبق لها أن أفتت بالمشاركة في 2006 وفي 2010؟
قلت: تلك اجتهادات وتقديرات مشروعة ومن حق أي حزب أو مرجع أو فرد أن يراجع مواقفه في ضوء ما يراه من تقييم، والفتوى هنا ترتبط بشأن عام سياسي والشأن السياسي يخضع لتحولات الواقع وموازين القوى، والتي يتم تقديرها في حينها، والانتخابات التكميلية ترتبط بمقاعد وفاقية في الأصل، وقد كانت تحت تصرفها وانسحبت منها ضمن موقف سياسي ضاغط على السلطة لإحراجها أمام الداخل والخارج، وهي تقاطع هذه الانتخابات أيضاً لنفس الأسباب، وإذا انقسم الناس حول موضوع المشاركة في الانتخابات التكميلية كان لابد من حسم الخلافات والمواقف المتباينة من قبل الولي بداية، ويُنفَّذ حكمه لكونه ملزم الطاعة، حتى لو كان للجمهور – أو قسم منه-رأي مخالف، ولذلك لا داعي للاستغراب ولا معنى لافتعال التناقض والمفارقات، فمتى أفتى بشيء كان الرد بالضرورة: السمع والطاعة، ولذلك أعتقد أن أية مفاوضات أو حوارات سياسية جادة يجب أن تكون مع من بيده الأمر مباشرة وليس مع التابعين له.
قال: ولكن هذا النظام يبدو وكأنه يحظى اليوم بما يشبه الإجماع حوله بين الإخوة الشيعة؟
قلت: لا أعتقد أنه محل إجماع، فالشارع الشيعي في البحرين ولبنان والعراق وفي الكثير من البلدان الإسلامية لا يعرف معنى “ولاية الفقيه”، ولا ينطلق في تحركاته بناء على هذا المنهج، ولكنه بالتأكيد يطلب الحرية والعدل ودولة الرفاه والقانون والمساواة، وقد لا يصدق أن التسلسل الهرمي لممثل الولي الفقيه في بلده يصل إلى مرشد الثورة في إيران، وأن المشكلة الرئيسة أن قسماً مهماً من النخب أوكل الأمر إلى “الفقهاء” دون إعمال العقل في قضية مصيرية تخص حياتهم ومستقبل أبنائهم، ويرجع ذلك إلى عدة أمور، لعل أبرزها الثقة الكبيرة في رجل الدين وتقديسه والتوجه المحافظ لهؤلاء، ولذلك فهم يتكتلون ويتحلقون حول رجال الدين الذين يحظون بالشهرة نتيجة الماكنة الإعلامية الضخمة التي تديرها إيران، عبر وسائل الإعلام الإيرانية، ووسائل الإعلام الأخرى التي تدور في فلكها، وعلى وقع هذا الصخب والضجيج تضيع أصوات المفكرين الشيعة العرب الأصلاء المستنيرين، ومنهم على سبيل المثال الشيخ محمد مهدي شمس الدين بالإضافة إلى أصوات عشرات الفقهاء في إيران نفسها، فمن المفارقات أن يكون السيد حسين أحمد الخميني حفيد الإمام الخميني رحمه الله، هو من يطالب بإنهاء مبدأ ولاية الفقيه الذي اعتنقه وحكم به جده طوال ربع قرن، ومن المفارقات أيضاً أن تكون حفيدة الخميني تنتمي إلى الإصلاحيين وتطالب بالحد من تدخل رجال الدين في شؤون الدولة، وفي لبنان يوجد كثير من المفكرين الشيعة من الذين يختلفون فكرياً وسياسياً مع هذا الاتجاه فكرياً كوضّاح شرارة ووجيه كوثراني والشيخ صبحي الطفيلي وغيرهم كثير.