الرأي

قبل أن يلتهب الخليج العربي

نوافذ

باستثناء النزاع بين الفلسطينيين والعدو الصهيوني لابد للحروب الداخلية المندلعة اليوم في المنطقة العربية والصدامات العنيفة التي مازالت تسير الأوضاع السياسية فيها أن تضع أوزارها، وأن تحط رحالها، دون أن يعني ذلك وصولها إلى نهايات حاسمة كما قد يتوقع البعض لها. لا يعني ذلك أيضاً توقف الصراعات بين القوى المختلفة في المجتمع الواحد، فذلك مناف لقوانين التطور الاجتماعي والتغير السياسي، سواء كان ذلك التحول صدامياً عنيفاً أو تطوراً سلمياً سلساً.
تهدف هذه الإشارة المقتضبة لتشخيص الحالة العربية الراهنة إلى استقراء المستقبل الذي ينتظر إحدى كتلها الرئيسة ذات التأثير العميق على الأوضاع فيها، والتي كانت نسبياً هادئة خلال الأحداث العربية الأخيرة وهي منطقة الخليج العربي، التي تلوح في الأفق سحب تنذر باحتمال اندلاع صراعات عنيفة فيها تعكر صفو الهدوء النسبي الذي نعمت بها منذ ما يزيد على النصف قرن. تبرر هذه الرؤية، التي ربما تبدو غير واقعية في أذهان البعض، مجموعة من الأسباب والظواهر التي يمكن رصد الأهم بينها في النقاط التالية:
1. الحاجة الموضوعية للتغيير بفضل احتكاك هذه المنطقة الشديد والمتواصل بالمجتمعات المتطورة غرباً، بأوروبا والولايات المتحدة، وشرقاً باليابان والدول الآسيوية الأخرى المتقدمة من أمثال سنغافورة وماليزيا بفضل تنامي التبادل التجاري بينهما، جراء تراكم السيولة النقدية لدى المجتمعات الخليجية الناجمة عن الثروة النفطية التي كانت تلك الدول الأخرى في أمس الحاجة لها وقادرة على امتصاصها بدرجات متفاوتة، من خلال تحفيزها على الاستثمار في أسواقها أو استيراد البضائع التي تصدرها. أدى ذلك إلى زرع عناصر التغيير اللازمة في أذهان القوى الاجتماعية المحلية ذات المصلحة أو المالكة للرغبة في التغيير. هذا التغيير القادم لا محالة، لا يمس القوى الحاكمة فحسب، بل يتسع نطاقه كي ينال من القوى الداعية للتغيير أيضاً التي باتت هي الأخرى مطالبة في أن تعيد النظر في برامجها السياسية، وفي أساليبها التنظيمية كي تأتي مناسبة للتغييرات القابلة للتنفيذ دون مغامرة سياسية صبيانية لا نهائية أو خنوع فقد العوامل التي تبرر استمراره.
2. الاستقرار النسبي الذي نعمت به هذه المنطقة خلال ما يزيد على النصف القرن الماضي الذي لم يغير منه سوى ثلاثة تحولات نوعية أساسية؛ أولها كان استقلال الكويت في مطلع الستينات، وما رافق ذلك من تغييرات نوعية ملموسة في البنية الاجتماعية بفضل الطفرة النفطية المبكرة لازمتها تحولات سياسية راديكالية حينها، قادها، من يجمع الكويتيين على أنه الأب الروحي لتلك التحولات المرحوم عبدالله السالم الصباح، الذي قاد تلك التغييرات التي تمثلت في الدعوة لجمعية تأسيسية أدت إلى جسم نيابي منتخب هو مجلس الأمة. أما الثاني منها؛ فقد عرفته سلطنة عُمان عندما أنهي حكم سعيد بن تيمور وتقلد السلطان قابوس سدة الحكم، وأقدم على خطوات كانت في حينها ونظراً للظروف السائدة في عُمان جذرية أدت إلى تحولات نوعية في بنية النظام السياسي البوسعيدي هناك، رافقته بعض الإصلاحات الاجتماعية التي من الخطأ التقليل من أهميتها، خصوصاً عندما تقاس في إطارها التاريخي. وجاء التغيير الثالث من عاصمة البحرين المنامة، عندما ورث الحكم في نهاية القرن الماضي ولي العهد حينها الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة إثر وفاة والده المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وما تلا ذلك من مشروع إصلاحي جذري قاده جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة شخصياً، وتمخض عن ميثاق العمل الوطني الذي جاء بالمجلس الوطني بحجرتيه المنتخبة والمعينة، بعد أن أزاح قانون أمن الدولة سيء الصيت الذي كان جاثماً على صدر الأوضاع السياسية في البلاد مشكلاً حائطاً سميكاً عزل المعارضة البحرينية، وحرمها من حقها في إقامة أي جسر من جسور التفاعل الضروري المطلوب بينها وبين السلطة الحاكمة.
3. الأهمية العالمية والحضور الدولي اللذين تحظى بهما المنطقة بفضل الثروة النفطية التي بحوزتها، والتي تشكل ما يزيد على 50% من احتياطي النفط العالمي، وما يربو على 30% من إنتاجه يجعلها ساحة حبلى بالصراعات ذات المصدر الخارجي أكثر من أن تكون منطقة معزولة تتحكم فيها العوامل الداخلية المحضة. هذا لا يعني تغليب الخارجي الموضوعي عن الذاتي الداخلي، لكن يلفت إلى الثقل الذي لا ينبغي أن يستهان به لدور العوامل الخارجية، خصوصاً في منطقة تعاني من تخلخل سكاني نسبي يترافق مع ثروة نفطية هائلة، وفي المراحل الأخيرة سيولة نقدية ضخمة. الحديث عن هذا الدور العالمي الذي تتفرد به هذه المنطقة ربما يفسر كثيراً من تلك التغييرات النسبية المحدودة التي شهدتها دول الخليج العربي خلال الفترة التي نتحدث عنها.
4. الخلفية الحضارية والالتصاق الجغرافي والتفاعل السياسي والروابط الدينية؛ والتي تحكم العلاقة بين المنطقة الخليجية والدول العربية الأخرى، الأمر الذي يقود موضوعياً إلى تأثر الأولى بما تعرفه الثانية، وإن كان في صور أخرى وبطبيعة مختلفة. ويمكن الاستعانة ببعض الأحداث العربية المفصلية التي تركت بصماتها الواضحة على الأوضاع في دول الخليج العربي. تكفي الإشارة إلى الثورة الناصرية في الخمسينات من القرن الماضي وإلى حرب يونيو 1967 بين العرب وإسرائيل، وأحداث ما يعرف باسم “الربيع العربي” في نهاية العقد الأول من القرن 21. مرة أخرى لا ينبغي القفز هنا إلى نتيجة مفادها الامتداد الجغرافي التلقائي لما يحدث في دولة عربية إلى المنطقة الخليجية، إنما تسعى الإشارة إلى التأكيد على التفاعل المتبادل بين مساحات جغرافية مختلفة تنتمي إلى حد بعيد إلى بيئة سياسية تحمل كثيراً من العناصر المشتركة فيما بينها، الأمر الذي من شأنه تسهيل عمليات التأثير المتبادل بينها أيضاً.
تأسيساً على تلك المعطيات وبالنظر إلى أن رياح التغيير الموضوعي قادمة، ولابد أن تهب على المنطقة، فمن الأجدى أن تهيئ القوى السياسية الخليجية الفاعلة، معارضة كانت أم في الحكم، للحيلولة دون التهابها، وأن تضافر جهودها كي تأتي عمليات التغيير المطلوبة بشكل سلس وبأقل التضحيات الممكنة وليس ذلك بالمطلب المستحيل تحقيقه. كل ما في الأمر، دون أن يعني ذلك تبسيط المسألة أو محاولة تسطيحها، توصل الأطراف كافة إلى موضوعية الحاجة لذلك التغيير وضرورة تهيئة الأوضاع كي تتفاعل إيجاباً معه دون الحاجة لأن يحترق أي منها بلهيبه.
الخليج العربي مهدد بتغييرات ملتهبة، ومسؤولية جميع القوى السياسية الخيرة الباحثة بصدق، حاكمة أو معارضة، ودون ادعاء مزيف أو “أجندات” مخفية، أن تتضافر جهودها من أجل العمل لضمان مستقبل زاهر له من خلال إعادة النظر في سياساتها ومراجعة سلوكياتها كي تحول دون التهاب الخليج دون أن يعني ذلك الوقوف في وجه أية تغييرات إيجابية لصالح حكامه وقبلهم شعوبه على حد سواء.