إنه «التوطين» يا جماعة!
من الأخبار المفرحة التي طلت علينا مؤخراً، وتستحق الكثير من الاهتمام والانتباه، نزولاً في تفاصيلها للاستفادة من تجربتها وأسباب نجاحها في إنجاز وعدها، لتحقق هدفاً كنت أحسبه صعب المنال في عالم الأعمال.. الخبر المفرح هو تسجيل «شركة نسيج للتطوير العقاري» لنسبة بحرنة كاملة.
.
تخيلوا.. جميع موظفي وموظفات الشركة، من التنفيذيين والإداريين، هم كفاءات بحرينية تعمل في التطوير العقاري!
.
وسبب ذلك النجاح، يعود دون شك، لتبني قيادة الشركة الشابة لعقيدة «البحريني أولاً»، واتخاذها خطوات شجاعة للاستثمار الكامل في الكادر الوطني، عبر بناء جسرها الخاص لتقليص الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، وهي ذات الفجوة التي يختبئ فيها المتهربون من سياسات التوطين.
.
وعملية إنفاذ هذه السياسات، سواء لتنمية رأس المال البشري الوطني، أو لتوطين عجلة الإنتاج، هي ليست بالعملية السهلة، ومن يعمل في ميدانها يعي تماماً أنها قضية ذات أبعاد استراتيجية مهمة، وتصل في أهميتها إلى بعد السيادة الوطنية والاستقلال الاقتصادي الذاتي، وذلك بما تقدمه سياسات التوطين، طويلة الأمد، من فرص قيّمة للتحرر من قيود الاتكال والاعتماد على مصادر الإنتاج القادمة من خارج الحدود، ولمعايشة فوائد ما تأتي به سياسة الإحلال الوطني.
.
النماذج المتبعة على هذا الصعيد كثيرة، ومن بينها بعض التجارب القريبة، التي نلاحظ أنها تعيد النظر في أولوياتها المتعلقة بمجالات التوطين وطرق الاستثمار فيها.
.
المهم في تلك التجارب، أنها لا تقطع حبال المنفعة المتبادلة مع محتكري الإنتاج العالمي، بل تعيد صياغة أساليب الاستفادة من خلال فرض رؤية جديدة لسياسة التبادلات، التي تنتهج خطاً مختلفاً في تعاملاتها، فهي تشتري الخبرة والمعرفة، تمهيداً للاستغناء عن شراء قطعة غيار أو علبة دواء.
.
والملاحظ أيضاً في تلك النماذج، تركيزها على قطاعات عالية القيمة والأهمية، كمجال الأمن الطاقي والدفاعي والدوائي والغذائي، وحياكة خيوطه «الذهبية» ضمن النسيج الأكبر للأمن الوطني، لتحكيم تماسكه وغلق ثغراته، ولإعطاء الاقتصاد الوطني جرعة مقوية للاستمرار في تشجيع المحتوى المحلي، وتوليد المزيد من فرص العمل «عالية القيمة»، وإعانة المؤسسات التعليمية، في المقابل، على تصميم برامج تنسجم مع توجهات السوق المتغيرة.
.
وسأختار، لموجبات التوضيح، بعض الأمثلة العملية التي تنتهجها عدد من الاقتصادات المجاورة، ومن بينها البحرين:
.
- فالمملكة العربية السعودية، تعمل على قدم وساق، لتوطين الصناعات الدوائية وتنوي تصنيع حوالي مئتي دواء محلياً.
.
- وعلى جبهة أخرى، تتجه المملكة نحو توطين إمدادات الطاقة، وبطموح يؤدي لـ«سعودة» كافة عملياتها، وعلى ذات الخط تسير شركة بابكو «للتكرير» بخطتها الخمسية لـ«بحرنة» طواقمها.
.
- وللإمارات ومصر خططهما الخاصة بالتوطين، لتشمل قطاع الصناعات العسكرية، وهو توجه، في رأينا، يتخلص، مع الوقت، من حبال الهيمنة و»المكاسر» السياسي الذي يمارسه مقدم المنتج والخدمة. ويعزز التوجه المصري في هذا المجال، ما يعرف بـ«الهيئة العربية للتصنيع» التي تأسست في منتصف السبعينيات برأس مال عربي، أما اليوم، فالهيئة مصرية بالكامل، ولها من الإنتاج الصناعي العسكري ما تلتف له الأعناق إعجاباً.
.
- أما أكثر تلك التجارب مجازفة، فهي في عالم الذكاء الاصطناعي الذي تتحكم فيه كبريات الدول والشركات العالمية، حيث نرى قيام عملاق عالمي جديد على يد دولة الإمارات العربية المتحدة، وأعني بالعملاق شركة G42، المتخصصة في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي لخدمة البشرية، والجميل في أمر الشركة الإماراتية العابرة للقارات، تركيزها على إغناء المحتوى العربي ضمن منصاتها، وهذا بدوره ذكاء استراتيجي يحسب لصالح التوجه الإماراتي في قيادة التغيير الناتج عن هذه الثورة التقنية.
.
فإذن، أولوية التوطين ثم التوطين، هي محل اعتبار واهتمام كل من يريد أن يحوز على «سلاح الاستقلال» التنموي، للانتقال من خانة «استهلاك» معارف الآخرين إلى خانة «الإنتاج» المعرفي والحضاري، بأدواته القادرة على التأثير والتحكم في مستقبل الأحداث العالمية.
.
أما آخر ما أريد أن استشهد به، وضمن ذات السياق، هي صورة من صور الزهو بالصناعة الوطنية، والتحرر من «الرسميات» عند توظيف الدبلوماسية لرواية قصص النجاح الوطنية.
.
ولمعرفة ما أعني، شاهدوا فيديو السفير الألماني في مملكة البحرين، وهو يختبر قيادة المرسيدس الألمانية الصديقة للبيئة والفخمة في كل تفاصيلها.
.
.. ما أبسطها من صورة، ولكن ما أبلغها من رسالة.