الرأي

عن «تعب» الحروب



العبث الذي يأتي به «تعب الحروب»، كنتيجة حتمية لاستطالة مدة أي صراع، هو أسوأ وأخطر من صدمة البدايات. ولماذا ذلك؟

لأن إطالة عمر أي حرب يؤدي، لا محالة، إلى عملية استنزاف طويلة الأمد، والأمثلة التي يسجلها تاريخ الحروب كثيرة، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يقع على أعلى هذه القائمة بحروبه غير المنتهية، فواقع الاحتلال مستمر، والحرب الأخيرة على غزة، ليست باستثناء، فاستمرارها، كما جميعنا يرى، يفتح الأبواب على مصراعيها لتكالب الضباع واتحاد الذئاب على مذبح التضحيات لإرواء مخططات ساسة وتجار الحروب، وكبت أي أمل لنفض رماد الدمار.

ومع «تعب الحرب» تتعقد قواعد الاشتباك، وتتحول ساحاته إلى مضمار لنزال بشع، «بلا ضوابط، وبلا سقف»، فلا يبقى للحكمة معنى ولا للرحمة مكان، ليطغى منطق «اللا معقول» على العقول، وانعدام الرحمة في القلوب، في مواجهة الخوف من المجهول تحت رعاية أسياد «الكهوف الحجرية»!

ومع اشتداد قواعد الاشتباك تتعقد أصول اللعبة، والمقصود هنا لعبة الصراعات بمحصلتها الصفرية، وبتكتيكاتها الهادفة لكسر العظم، وحفظ ماء الوجه، وتضييع فرص الحل، وشراء الوقت لإطالة عمر البقاء على الكراسي، وبسيناريوهات للعبة مستهلكة يعيد لنا الزمن أسطوانتها المشروخة بنشازها الموحش.

ولسوء الحظ، فهناك من هو مضطر للاستسلام، قهراً وظلماً، تحت رحمة هذا الواقع المجنون بسياساته التي تستحق أن تُصنف في خانة الحماقة والشعوذة السياسية المؤذنة بخراب أي عمران، وأي تعايش، وأية محاولة لإعادة بناء مراكب النوايا الحسنة لتبحر مجدداً نحو وجهة السلام التي، في ظننا، بدأنا بالإبحار في عكس اتجاهها، مع استعرار ماكينة الحرب الكارثية التي تفوز برتبة «أكبر وصمة عار» على جبين إنسانية الوقت الحاضر.

فها هي فرضيات اليوم التالي ومعها المهادنات وخطط الإنقاذ، وبرامج إعادة الإعمار، وحل الدولتين، وتصالح المختلفين تتلاشى وتتبخر أمام أعيننا، ليبقى مصير المنطقة في نفق التصعيد الذي يدير ملفه محور «المقاومة»، المقاوم لحالة السلام، لا غير، وبخطة، قد تبدو فوضوية ومرتجلة، ولكن نتائجها الفعلية تمكنت من بعثرة الخرائط، كما المصائر، في سياق خطة تطويق ثالوثية اُنهي ترسيمها، من شرق الخليج العربي إلى جنوب شبه الجزيرة وصولاً لسواحل البحر المتوسط، وعودة لمضيق هرمز.

ويعمل «مقاولو» خطة التطويق هذه، التي تشتعل زوايا مثلثها، وتتطاير علينا بشررها، أينما اتجهنا، على قدم وساق، تحسباً لتساقط أوراق الخريف الأمريكي، لتنشط عملياتهم بتضييق حلقات حصارهم وفرض أوضاع جديدة لمصلحة المتحاربين «كرمال عيون» من يريد استمرار سياسة «اللا معقول»، القائمة على استراتيجية الاستنزاف والهيمنة وسحب الجميع لعوالم النرجسية القومية والعقائدية، وازدراء من يختلف عنها، وإنهاء من يخالفها.

ويضاف لهذه الصورة السوداء، اشتعال فتيل الحرب «المزدوجة»، بين شمال وجنوب، وعلى وقعها تُدَق نواقيس دعاة الحرب إيذاناً بانتقالها لبعد ثالث. فبعد احتراق الأخضر واليابس، علينا أن نستعد لحرق ما تبقى من العدم!
ولمواجهة حماقة «اللا معقول»، لا يبقى إلا خيار العودة لأضعف الإيمان، بالتمسك بحبل الأمل، لنستدل بنوره اتجاه طريق الصواب، واسترجاع شجاعة حسم الأمور، لتهدئة ساحات الحرب وتخليصها من خطابات التهديد والوعيد، ومن استطلاعات «الهدهد»، ومن العنتريات المضيعة لفرص العيش في أمان، ومن التبشير والتفاخر بالجهاد والاستشهاد، الذي لا يخرج عن كونه انتحاراً، وإعلائه على قدسية حفظ النفوس.

ومع فوز مرشح التيار الإصلاحي، لرئاسة الجمهورية الإيرانية، مسعود بيزشكيان، فأنظار العالم أجمع تتجه للرجل. فلأول مرة، ومنذ زمن بعيد، يتحلى الخطاب السياسي الفارسي بنوع من المرونة وشيء من الليونة، حيث حرص الرئيس المنتخب، طوال مدة ترشحه، على إيصال نبرة إيجابية تجاه العديد من الملفات الخارجية المعقدة، لمد «يد الصداقة للجميع»، وإبداء رغبته في التخلص من العقوبات الخانقة لاقتصاد بلاده.

كما توجه، السيد مسعود، بذات النبرة المطمئنة، نحو الداخل الإيراني، وهو القادم من مدينة مهاباد، ذات الجذور الكردية السنية، موضحاً مواقفه الداعمة لحماية الحريات وحقوق النساء والأقليات.

ولربما، ستسعفه خلفيته الطبية، كجراح قلب ووزير سابق للصحة، للقيام ببعض المعالجات البرجماتية والموضوعية لتسمية الأمراض وعوارضها بمسمياتها، إذا كان الهدف، فعلاً، عودة المياه لمجاريها الصحيحة، بين إيران وجوارها العربي، إيفاءً بوعوده الانتخابية بالتمام والكمال.

قد نكون بالغنا في التفاؤل بمستقبل الأحداث، ولكن ما أصعب العيش لولا فسحة الأمل.. الأمل برؤية واقع تعلو فيه مصالح المنطقة على إحباطات «اللا معقول»، ونقصد واقعاً جديداً تنجح فيه الدولة الشرعية من فك ارتباطها عن حالة «اللا دولة» التي تفرضها الجماعات المتمردة على شرعية دولها، فقط لأجل التمرد! ولتتحرر محاولات التقدم للأمام من قيود التراجع نحو عصور «الظلام»، كي تعيش الأمة في «سلام».

* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة