العلاقات بين البحرين وممالك وسط وجنوب الجزيرة العربية
السبت 11 / 05 / 2024
تمتّعت البحرين بموقع جغرافي متميّز على خريطة العالم القديم، ممّا جعلها مركزاً تجارياً بارزاً ومركزاً حضارياً مزدهراً. وقد لعب موقعها الجغرافي وثقلها السكاني وتنوّع مواردها وتميّزها الثقافي دوراً هاماً في ازدهارها زاد من أهميتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بين أقاليم جزيرة العرب والدول المجاورة، الأمر الذي دفع الكيانات المجاورة إلى الاهتمام بالتواصل مع سكانها لبناء علاقات سياسية واجتماعية، ممّا عزز الاستقرار السياسي والتبادل الحضاري، وساهم في تحقيق المصالح الاقتصادية والاجتماعية، ومنها على سبيل المثال: مملكتيّ حِمْيَر وكِندة.
العلاقات بين البحرين ومملكة حِمْيَر: انطلاقاً من حرص القبائل العربية في البحرين وزعمائها على بناء علاقات متوازنة ومتنوعة مع الكيانات العربية المهمة، عزّزت تواصلها مع العديد من القوى العربية في المنطقة من بينها مملكة حِمْيَر في جنوب الجزيرة العربية والتي ينتهي نسبها إلى حِمْيَر بن سبأ، وهي من القبائل العربية القحطانية الكبيرة التي عُرفت بتأثيرها الكبير وانتشارها الواسع في جزيرة العرب والعراق والشام.
وفي مطلع القرن الرابع الميلادي بدأت رحلة امتداد نفوذ الحِمْيَريين شمالاً وشرقاً في جزيرة العرب، لتصل إلى سواحل البحرين؛ حيث تورد النقوش الأثرية والمصادر التاريخية لقائهم بقبيلة عبدقيس في عهد ملكها تبع ملشان، تزامن ذلك مع توثيق العلاقات مع مملكة كندة عزّزته المصاهرة وأسهمت في ترسيخ نفوذ الدولتين في جزيرة العرب خاصّة في نجد والحجاز واليمامة والبحرين. وفي منتصف القرن الخامس الميلادي شهدت حِمْيَر توسعاً ملحوظاً في نفوذها وعلاقاتها خصوصاً في عهد الملك تبع أسعد؛ الذي سعى لتعزيز نفوذ مملكته في البحرين واليمامة وأطراف العراق والشام. حيث تميزّت هذه الفترة بتوطيد العلاقات وعقد الاتفاقيات بين مملكة حِمْيَر وبعض القبائل العربية، إذ تم عقد حِلف بين تبع أسعد وقبائل ربيعة العدنانية، تم على إثره التوصّل إلى ما يُسمى بـ(حلف اليمن وربيعة) تضمّن النصرة والمؤازرة بينهما، ممّا رسّخ من مكانة الدولة الحِمْيَرية وفتح آفاقاً جديدة للتعاون.
كل ذلك أسهم في استقرار بعض القبائل العربية في إقليم البحرين، مثل كِندة وطيء والأشعريين، بالإضافة إلى قبائل من ربيعة، خاصّة بكر بن وائل. كما قدّم تبع الدعم والتأييد لدولة كِندة، حيث عيّن ملكها الحارث بن عمرو الكندي ممثلاً له في البحرين واليمامة ونجد بأنّ الحرص المتبادل بين قبائل البحرين ومملكة حِمْيَر على إقامة علاقات وثيقة، كان له الأثر في دعم الاستقرار السياسي والاقتصادي، الذي ساهم في تعزيز مكانة البحرين كمركز تجاري إقليمي.
العلاقة بين البحرين ومملكة كِندة:
لعبت قبيلة كِندة القحطانية المهاجرة من اليمن دوراً هاماً في تاريخ وسط جزيرة العرب وشرقها حيث أسّست كِندة مملكة في نجد في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي، وازداد فيما بعد حرصها وتوثيق علاقتها مع قبائل البحرين على أثر تعيين معاوية الجون ممثلاً لها في البحرين والذي اتخذ من هجر مقراً له، وذلك لتنظيم العلاقات والإشراف على مصالحها، وتوافق ذلك مع روح التعاون والتضامن الذي أبدته قبائل البحرين في محيطها الإقليمي، كل ذلك شجع على إقامة علاقات وطيدة بين كِندة مع بعض بطون قبيلة ربيعة، ممّا كان له الأثر في تشجيع استقرار قبائل كثيرة في البحرين، علاوةً على ذلك ساهم في تعزيز نفوذ كِندة في المنطقة. والتي دخلت في تنافس وصراع مع المناذرة على حكم جنوب ووسط العراق، وأدى ذلك إلى تراجع نفوذها في البحرين ونَجْد خصوصاً في مطلع القرن السادس الميلادي.
وعلى الرغم من تراجع نفوذ مملكة كِندة في جزيرة العرب على إثر مقتل ملكها الحارث إلّا أنّ وجودها وتأثيرها بقي مستمراً في البحرين؛ إذ كان لبعض أبناء ملوكها علاقات مع بعض قبائل البحرين منهم عبدالله (قيس) الحارث مع قبيلة عبد القيس وسلمة بن الحارث على بطون من قبيلة تميم وشرحبيل بن الحارث مع قبيلة بكر بن وائل، واستمر ذلك إلى سنة 553م حيث شهدت دخول بطون كِندة المتواجدة في اليمامة والبحرين في خلافات وتنافس مع قبائل مختلفة أدى ذلك إلى اضمحلال دور كِندة وهِجرة العديد من سكانها إلى حضرموت.
البحرين: تعاون واستقرار: وهكذا يتضح لنا بأنّ موقع البحرين الجغرافي ودورها التاريخي وارتباط أبنائها القبليّ وروح التعاون الذي كان سائداً في البحرين ساهم إلى حد كبير بوجود علاقات متينة مع أشقائها العرب؛ وكان لذلك التواجد آثار اجتماعية وسياسية وثقافية كبيرة، أسهمت في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي خاصّة خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين. وها هي مملكة البحرين تواصل دورها التاريخي وارتباطها العربي في عهدها الزاهر بقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه لتستمر في مواقفها البنّاءة إقليمياً وعربياً من خلال اعتمادها سياسة التضامن والتعاون وتعزيز العلاقات العربية، لتحتل البحرين بذلك -وكما كانت على مدار التاريخ- مكانتها ودورها الرائد.
* باحث في التاريخ وأكاديمي