الرأي

«من حر ما فيها»

المقولة تُطلق على من يفقد أعصابه ويعجز عن ضبط انفعالاته فيفضح الإنسان نفسه ويُظهر ما كان يكتمه فينفجر ويطلق شرار الكلام من كثرة الضغط النفسي وحرارة ما فيه.

المذيعة البريطانية جوليا برور المذيعة في قناة توك تي في البريطانية، نسيت نفسها تماماً وأطلقت لأفكارها ومشاعرها وهواجسها العنان، فظهر ما بَطَن في نفسها ودواخلها من عنصرية وتغطرس وغرور مغلّف بِكَمٍّ من الجهل المُدقع الذي كشفته المذيعة وفضحت نفسها، فأثارت ردود أفعال واسعة ضدّها في بريطانيا وخارجها وَصَمَتْها بعدم المهنية وقلّة الأدب.

المذيعة استضافت الدكتور مصطفى البرغوثي الأمين العام للمبادرة الفلسطينية الوطنية، لتسأله السؤال الوحيد الذي تتمسّك به القنوات البريطانية «هل تُدين حماس؟» لكنها لم تترك له فرصة للإجابة، فهي التي كانت تسأل وتجيب وتعلّق، بل تمادت ولم تتمكّن من السيطرة على انفعالاتها، فقالت له «أنت لا تجيب لأنك غير معتاد على مخاطبة النساء!!».

مسكينة ظنّت أنها سجّلت هدفاً في مرمى الضيف، لكنها لم تعلم أنها كشفت عن أن مصادر معلوماتها عن المسلمين والعرب لا تتعدّى أفلام ديزني لاند علاء الدين والبساط السحري، مما يعني تخلّفاً وجهلاً تامّاً وتسطيحاً حقيقياً وبُعداً عن الواقع وعدم مواكبة أيّ مستجدّات.

إن كان للسابع من أكتوبر من فائدة فهي إعادة النظر لدى الرأي العام الغربي وفتح ملف الكذبة الكبرى تجاه القضية الفلسطينية بشكل خاصّ والعرب والمسلمين بشكل عام من جديد وبمنظور مختلف، واكتشاف الخدعة الكُبرى التي ضلّلته طوال السنوات السابقة.

من بعد ردّة فعل إسرائيل الوحشية -وهي التي خدمتنا فعلاً- جرى انفتاح واسع وكبير على الوجه الآخر للرواية الغربية، شغف كبير لدى الجمهور الغربي ورغبة واسعة لمعرفة الحقيقة بل وحتى تعلُّم جديدٍ عن الإسلام، نَتَج عنه تخبُّطٌ كبيرٌ في رعاة الرواية الغربية القديمة، ومنها مثل هذه «الجوليا» التي لم تتمالك نفسها أمام المشاهدين وأسقطت قناعها وهي تظنُّ أن الجمهور مازال ذلك الذي يتحيّز معها ولا يرى غير ما تراه.

الذين هاجموها وانتقدوها كانوا بريطانيين بعد أن أصبحت لديهم الآن مصادر متعدّدة غير قنواتهم المحلية، انفتاح وسائل التواصل الاجتماعي والنقل المباشر الحيّ من غزة ومن تحت الأنقاض سحب البساط من الإعلام الغربي التقليدي.

البريطانيون يتابعون ما يحدث من أهل غزة أنفسهم وهم تحت القصف، ويشاهدون الموت على حقيقته والوحشية الإسرائيلية بوجهها السافر والتي لم يُرَ لها مثيل في عالمنا المعاصر، انكشف الوجه الحقيقي لما كان يسمّونه بالدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فما عاد صراخ وغضب وانفعال أمثال هذه المذيعة قادراً على أن يغطي الحقيقة كالسابق.

إنما أقف عند الانطباع والصورة التي حُفِظت في الذاكرة لهذا المقطع المتداول للمقابلة والذي كان صورةً صارخةً لسقوط قلعة من قِلاع القوى الناعمة الغربية إعلامها وإعلامييها، نتمنّى ألا نضيّعها من فرصة لتعريف ذلك الرأي المغيّب عن هويتنا وحقيقتنا التي ضلّلتها وشوّهتها تلك القوى لعقود طويلة.