الرأي

كتابة التاريخ

"هناك بعض ما صدر من كتب في ظروف وأوقات معينة والتي تتناول جوانب تاريخية معينة لا يجب أن يعتد بها كمراجع تاريخية كونها لا تستند إلى مصادر موثوقة ولا تحظى بالإجماع وغير رصينة ولم يؤخذ بها في أي وقت من الأوقات".

جلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة.

من أصعب الكتابات التي تبحث فيها عن الحياد هي الكتابات التاريخية؛ فمن يتصدى لكتابة التاريخ بحياد عليه أن يقرأ هو قبل أي أحد آخر التاريخ بحياد، فالقراءة بحياد من المهام التي تكاد تكون مستحيلة، وتحتاج فيها أن تتجرد من أهوائك وأفكارك المسبقة وأنت تقرأ.

من زاوية أخرى نرى التدليس يمس الكتابة عن الأحداث المعاصرة، فيكتب وصف الحدث الذي عايشناه بأهواء وأفكار مسبقة، فنحن نعاصر حدثا نراه ونقرؤه من زاوية، وآخرون يرونه ويقرؤونه من زاوية أخرى، فإن تصدى العديد لكتابة الحدث ذاته فتوقع أن تقرأ عنه ألف رواية ورواية، وعليك أن تقرأ جميع الروايات لتكوّن رأيك بحياد إن استطعت!!.

فإذا استبعدنا الأهواء والأفكار المسبقة التي تؤثر في رواية الحدث، فإن هناك من يزوّر ويفبرك ويغيّر ويخفي ويدلّس عند وعن سبق إصرار وترصد في وصف وسرد أحداثنا المعاصرة بمجرد تغير تصنيفها وتسميتها، فقصص صنفت على أنها حادث إرهابي يكتب عنها آخرون ويرونها بمسميات ثورية تضفي عليها الشرعية.

ناهيك عن اختلاف المعايير والمقاييس في كل مرحلة زمنية فبعض السلوكات كانت عادية وأخلاقية ومشروعة في مرحلة ما، أصبح من المستحيلات أن تقبل بها أو تسمح بها كالعبودية، فمن المصادر التي يعتمدها المؤرخون فيها "الوثائق البريطانية" وهي واحدة من أهم مصادر كتابة التاريخ في منطقتنا، لكنني قرأت الكثير من المتناقضات في أحكامها وتصنيفها للحوادث وفقا لأهدافها وأجنداتها ومصالحها، فما تصنفه وتقبله من تصرفات لمعتمديها في مستعمرة ما، تدين به المواطنين المحليين لو مارسوه، وتكتب هنا الحدث برواية ومقاييس تختلف عن المقاييس والمعايير لو أنها تناولت حدثا مشابها إنما في بلد آخر، ما يؤكد أن الأهواء السياسية تتدخل في وصف الحدث وروايته.

أما حين تتعدد المصادر التي تروي ذات الحدث ولكل منها رؤيته وزاويته فأنت أمام عدة روايات لا رواية واحدة، تأخذك كل منها لاستنتاجات مختلفة عن بعضها البعض.

إن أردت أن تكتب عن حادثة جرت في البحرين تعبر عن اعتراض الغاصة على التعديلات التي أدخلت على "قانون الغوص" عام 1932 م فعليك أن تقرأها من أكثر من مصدر؛ لأنك ستجد أكثر من رواية لذات الحدث.

ستقرؤها في أحد الكتب بعنوان "ثورة الغاصة" وفي كتاب آخر ستقرؤها "تمرد" وآخر سماها "انتفاضة" وفي كتاب آخر "احتجاجات" واختلاف التصنيفات يعتمد على أجندة الكاتب وأهوائه، فإن أراد إضفاء طابع سياسي على الحركة قال عنها إنها ثورة، وإن نزع عنها الطابع السياسي فيقول: احتجاج.

والواقعة واحدة وهي عبارة عن اعتراض أو احتجاج سمه ما شئت، إنما لم يكن موجها للحاكم، بل كان موجها ضد التعديلات التي أدخلها الإنجليز على قانون الغوص، وهي تعديلات في نهايتها كانت لصالح الغاصة وترفع عنهم الظلم، فهي تمنع توريث الدين لأبنائهم، ولكن لأن التعديلات كانت تقضي بتقليل مبلغ "التسقام" أي مبلغ السلفة التي يأخذها الغواص من النوخذة قبل الموسوم ويعطيه لأهله كي يعيشوا منه خلال الأربعة أشهر التي سيغيبها عنهم في البحر، اعترضوا عليها، فتجمعوا وحطموا مركز الشرطة وتصادموا مع رجال الأمن، كل ذلك حدث في يوم واحد فقط وانتهى، إنما بعض ممن كتب هذه الرواية وسمى نفسه مؤرخا يحلو له أن يسمي هذه الحادثة "ثورة الغواصين" وصورها على أنها ثورة على النظام السياسي، وهي لم تزد عن احتجاجات ضد التجار والنواخذه لا على الحكام وليس لها أي بعد سياسي.

لذلك فإن القراءة التاريخية بحياد هي عملية أصعب من كتابتها، وقلما تجد الإجماع على تصنيف الحدث وتقييمه، لهذا من يتصدى لهذه المهمة عليه أن يكون حذرا جدا ويبحث في أكثر من رواية لذات الحدث عله يكوّن رأيا محايدا أو يجد ما يجمع عليه العقل والمنطق.

لذلك أعيد ما أكد عليه جلالة الملك المعظم: "هناك بعض ما صدر من كتب في ظروف وأوقات معينة والتي تتناول جوانب تاريخية معينة لا يجب أن يعتد بها كمراجع تاريخية كونها لا تستند إلى مصادر موثوقة ولا تحظى بالإجماع وغير رصينة ولم يؤخذ بها في أي وقت من الأوقات".