الرأي

كشف المستور في الإعلام

غضب وارتباك واحتجاج مؤسسة البي بي سي البريطانية من تويتر لأنه قام بتصنيف حساب «بي بي سي» الذي يضم 2.2 مليون متابع على أنه مموَّل من الحكومة البريطانية، ويأتي تصنيف «بي بي سي» في أعقاب تصنيف مماثل من قِبل الموقع المملوك لرجل الأعمال إيلون ماسك، للإذاعة الأمريكية الوطنية العامة «إن بي آر». على أنها هي الأخرى ممولة حكومياً.

قبل أن نعلق على الخبر السابق نود التأكيد فقط على أن «الإعلام الحكومي الموجه لخدمة السياسة الخارجية» موجود بصفتين إما مباشرة وعليه إشارة الحكومة وإما إعلاماً تموله الحكومة بطريقة غير مباشرة، ورفاييل روبن كورتاز باحثة ومحاضرة سويسرية في المجال الإعلامي سئلت ذات مرة ما هي البلدان التي لا تزال تستخدم وسائل الإعلام الدولية كأداة لسياستها الخارجية؟

فأجابت: «بدون إجراء دراسة منهجية، أجنح إلى القول إن جميع البلدان تستخدم وسائل الإعلام كأداة للسياسة الخارجية منذ زمن بعيد، وذلك لن يتوقف. فالحرب الإعلامية محور أساسي في القوة الناعمة للشؤون الخارجية. وأصبح الإعلام قضية حاسمة وأعتقد أن جميع البلدان معنية بتلك القضية، وإن بدرجات متفاوتة» انتهى.

ليس السؤال إذاً هل هناك إعلام حكومي أم لا؟ بل أي من تلك الوسائل الإعلامية كانت أكثر ذكاء في إخفاء مصادر تمويلها وإدارتها أي تبعيتها للحكومة؟ والسؤال الثاني هل البي بي سي نجحت في إخفاء صلتها بالحكومة البريطانية أو بأجهزتها وهيئاتها؟

بداية نحن إذاً لا نتحدث عن الإعلام الحكومي الواضح والصريح من محطات تلفزيونية وإذاعية وصحف ومواقع إلكترونية، بل نتحدث عن وسائل إعلامية ليس عليها يافطة الحكومة لكنها أداة تستخدمها الحكومات لخدمة أهدافها السياسية وتديرها عبر مؤسساتها المعنية كوزارة الخارجية أو الاستخبارات والأمن القومي أوحتى عبر الأحزاب السياسية، العديد من أجهزة الاستخبارات والأمن القومي في معظم الدول لديها دوائر خاصة بالنشر والإعلام والتأثير وتستخدم كل ما هو مؤثر لنشر رسائلها بما فيها الفن والرياضة ومراكز البحوث والصحافة والقنوات التلفزيونية، وعلاقة «هوليوود» بأجهزة الاستخبارات والأمن القومي الأمريكية ليست مخفية، أعلنت وكالة الاستخبارات أنها أنشأت مكتباً للتنسيق بين الوكالة وعالم الترفيه، وتقديم خبرة المستشارين من عملاء الوكالة لصناع السينما.

كما أن ارتباط قنوات تلفزيونية أمريكية أو صحف بأحزاب معينة ليست مخفية حتى وإن كانت تلك الأحزاب وصلت السلطة وتمثل الرأي الرسمي فلا تنقطع الصلة بل هي مستمرة.

ومن هذا المنطلق هل للبي بي سي مبرر للغضب والاحتجاج على تصنيف «تويتر» لها على أنها مؤسسة تابعة للحكومة البريطانية؟

المعروف أن البي بي سي تدار من قبل الشعبة العسكرية أو المؤسسة الاستخباراتية الشعبة الخامسة «mi-5» وتأخذ تعليماتها من «الوايت هول» وهم صناع السياسة في بريطانيا ويروي بول رينولدز، وهو أول صحافي بريطاني يطلع على جميع ملفات موظفي بي.بي.سي ممن خضعوا للتقصي السياسي، قصة العلاقة الطويلة بين هيئة الإذاعة والاستخبارات البريطانية.

فقد كتب أحد كبار المسؤولين في بي.بي.سي في عام 1985 الكثير من تفاصيل التعاون بينهما الذي كان يتم إنجازه في غرفة 105 في “برود كاستينغ هاوس”، كان شعار تلك الجلسة السرية “ابقِ رأسك منخفضاً، ولا تجب على الأسئلة”، حيث يخضع المتقدم للحصول على فرصة عمل إلى تدقيق وفحص سياسي لكشف انتماءاته السياسية. والملفت أن بي.بي.سي ظلت تخفي علاقتها مع الاستخبارات وتنكر التواطؤ مع أجهزتها على مدى خمسة عقود من الزمن.

وفي أوائل عام 1933، بدأ المدير التنفيذي لبي.بي.سي كول ألان داوناي، بعقد اجتماعات لتبادل المعلومات مع رئيس الاستخبارات البريطانية، السير فيرنون كيل، في شقة دوناي في إيتون تيراس بتشيلسي.

وكانت تلك الفترة الشاهدة على توتر العلاقات الدولية والصاخبة بالأحداث السياسية، وهي فترة فاصلة بين الحرب العالمية الأولى لتمهد إلى الحرب العالمة الثانية عام 1939، تتميز إلى حد كبير بتطرف الخطاب السياسي الذي يجسده صراع بين الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا. «صحيفة العرب نقلاً عن الابزورفر البريطانية».

للالتفاف على تلك الحقائق الواضحة قررت الحكومة البريطانية تمويل البي بي سي من خلال رسوم الاشتراك والتراخيص، إنما في نهاية المطاف ليست البي بي سي هي المؤسسة الإعلامية الوحيدة التي تدعي الاستقلالية وتنكر علاقتها بالحكومات فأبرز القنوات الفضائية والصحف الممولة من قبل مؤسسات سياسية أحزاب أو حكومات تحاول إنكار صلتها بتلك الجهات وادعاء الاستقلالية.

لذا فإن ما قامت به تويتر بالأخذ على عاتقها تحديد وتعريف الحكومي منها ومع من تمتد صلاته فإنها كشف عن المستور وتجاوز للعرف المسكوت عنه لعقود طويلة.